تخيلوا أول لقاءٍ لي به «جئت قبل حوالي سبع سنوات لمهرجان الدوخلة بالقطيف، كان موجوداً هناك، راهنت رهاناً متهوراً أنه من النوع النادر، الذي تجاوز المسافة ما بين نصوصه الشعرية وشخصيته، ليصبح الشخص والقصيدة نوعاً واحداً، لا يفصل بينهما فاصل، وهم قليلون جداً ونادرون كندرة الإبداع في أرض التقاليد، فاجأته دون أن يدري بأن عصبت عينيه، وسأله من حوله من أكون؟.

خمن وخمن أسماء لبعض من يعرفهم، لكنه لم يخمن أن يكون صاحب اليدين، شخصا لم يتجاوز التواصل معه رسائل قصيرة في وسائل التواصل، قلت له: مجاهد المتعالي، فاحتضنني بروح صادقة كأنما نحن أصدقاء منذ خطاه القديمة رفيقاً للعظيم "محمد الثبيتي...».

لم أضع لحظة واحدة بعد أن عرفته كشخص نادر، أن أتعلم منه «ليس الشعر» فالشعر كما يقول محمود درويش «لا وصية في الشعر لكنها الموهبة، لا وصية في الحب لكنها التجربة» وقد عشت في الشعر بلا موهبة سوى الاستماع، وفي الحب من «الموحدين» لأم يعرب كأني من سلالة «بني معروف»، لقد تعلمت منه «الذوق والفن والحضارة».

إنه «أحمد الملا» الذي سأحدثكم عنه خارج ما أوردته دائرة المعارف في الويكيبيديا، من أنه شاعر وسينمائي مع مناصب وجوائز، وأعمال ودواوين كثيرة... إلخ.

سأحدثكم عن أحمد الملا «الإنسان» عندما تفاجأت في إحدى زياراتي له، برفقة الصديق المشترك «زكي الصدير» بأن في منزله شاعرا ناشئا من إحدى الدول العربية، أخبرني هذا الشاعر أن «أحمد الملا» قد اطلع على بعض نصوصه الشعرية، فدعاه للمجيء لعله يشارك في أحد الأنشطة الثقافية، ولضيق ذات اليد عند هذا المصاب بآفة الأدب، فقد تكفل بسكنه وكانت مفاجأتي بأن السكن هو «منزل أحمد الملا»، ولهذا فقد اعتبرته في نفسي ووفق توصيف غازي القصيبي عن «قبيلة المثقفين» أن أحمد الملا ليس إلا شيخا كريما نبيلا من كبار شيوخ «قبيلة المثقفين» في السعودية، والتي تجد فيها كل ما في القبيلة العربية من أصناف اجتماعية، فهذا شيخ عشيرة ورأس قوم، وهذا قهوجي وتلك كأنها «ليلى بنت المهلهل أو الشفاء العدوية» وذاك فارس والرابع «صياح نياح»، والخامسة كأنها «لبنى القرطبية أو الخنساء» والسادس «طلَّاب حق» والسابع «راوية/‏‏حكواتي» والثامن «راعي صيد ومقناص» والتاسع «قصاص أثر» والعاشر «متتبع زلات» والحادي عشر «ثلَّاب كذَّاب» والثاني عشر «يحل ويعقد» والثالث عشر «دعي نسب في قبيلة الثقافة لا له ولا عليه» والرابع عشر «لا يسيف ولا يضيف».... الخ.

أحمد الملا فتح بيته لي، أسقاني قهوته الغالية الرفيعة، عاملني كما لم يعاملني بعض أبناء أبي وعمي، التقيت زوجته النبيلة ريم البيات وقال لها: هذا أخي مجاهد، انحنيت في داخلي إكباراً لهما، ولم يزد لساني على قول: العفو سيدي.. سيدتي.. هذا شرف كبير أرجو أن أسمو له، وكان ـــ دون أن يعلم ـــ يكبلني أكثر وأكثر بشيئين لا ثالث لهما «تلقائيته النادرة فهو وقصائده شخص واحد لا شخصين، وروحه الكريمة كرم نخل الأحساء على نجد، قبل ظهور النفط والمدن الجديدة»، كان يحمل تلقائية وبساطة تذكرني بصفات النادرين، الذين التقيتهم في حياتي «البساطة مع العمق الروحي الشديد، لا فاصل كبير بين ما يقوله ويفعله ويعيشه».

وأخيراً دعاني إلى كتابة هذا المقال قصيدة شعرية، قرأتها في عكاظ بعنوان «تحرير الأسرى» لأحمد الملا عن امتداد العمر، وكان منها قوله:

«أرى الفلاحين يهجمون من القرى بهراواتٍ، محررين شجيرات الشوارع السَِّبيّة... ماذا ألم بي، ما عدت أتجرع كأس الحياة.. دفعة واحدة.... كم نهبت الطريق، واستعصى على المنعطف تشبثه بذيل ثوبي.. حملت أكثر من فكرة على كتف واحدة، تسند أصدقاء يترنحون على الجسر».

وصلت إلى هنا في قراءة القصيدة، وأكملت بقيتها وأنا كالموجوع بغُصَّة، لأني في آخر لقاء لي به قبل بضع سنوات، رأيته بأم عيني، ونحن نراهنه على صعود نخلة فشمَّر القميص المزركش، عن ساعدين من فولاذ، وروح صقر حر، وصعد النخلة بلا حبل للطلوع، حزنت من هذه القصيدة، لم أرفع سماعة الجوال ولن أستطيع، فأنا أحترمه إلى حد الهزيمة لأنه «إنسان» يستحق الثبات على فصل الربيع إلى الأبد، قال في زمن مضى «أكتب وأنقض القول، أفتك بالوقت حتى آخره، أُلقيه مفتتاً خلفي، ولا ألتفت، أشتغل عنه بلحظات تتوالى، وأعد لها قبضتي وأنيابي».

كيف أنساه وهو من وقف وقال: هل تعرف الجذب؟ لا.. هل هو تعويذة سحر قديم؟! صمت واستدار بسيارته، يبحث عن بائع حساوي للجذب، اشترى واحدة وقال: تذوقها وقل لي رأيك: شكرته بهدوء و «وقار كاذب»، وأنا صارفٌ نظري عنه عبر نافذة سيارته إلى رمال الصحراء، عائدين من الأحساء إلى الخبر، لقد عرفت أني تورطت بهذا الإنسان، فكيف أنسى من أعطاني «قلب النخلة» كدرس عميق في أبجدية الحضارة.

عزيزي أحمد الملا: تشهد «الحياة والشعر وحكمة الكون الأبدية» أن بأمثالك النادرين نعرف معنى «الإنسان»، مثلك مثل بضعة أسماء قليلة عرفتها طيلة خمسين عاما، من عمري، رغم أني لن أتصل بك، ولن أرد على اتصالك، على أمل أن أفاجئك من جديد، لتحزر من ذا الذي يغطي عينيك، فربما لن تخطئ في معرفته مرة أخرى.