تجاوبا مع طلب الدكتور سعد الصويان في مقاله الأسبوع الماضي عن الوطن أولا، وإعجابه بالثناء على شخص كتب أو طالب بتشغيل السعوديين والسعوديات في مهن نظافة الشوارع، ليكن الأمر كما ظن الطارح للموضوع والمعقب عليه، فإن الأمر ليس ذا أهمية من الناحية الاجتماعية وربما الاقتصادية. ففي الأجيال المتعاقبة من الأهل والعشيرة في وطننا من مختلف المنابت والأصول عمل أناس في شتى المهن، من الحجر والطين وتكسير الحجار والعمل في المقاهي التي كانت بمثابة النزل حاليا، ولعل العسكريين قد مارسوا في الكليات والمعسكرات مهن نظافة تلك المباني وعملوا في مهن الخياطة والطباخة، فهذا خياط السرية، وذاك طباخ السرية أو الفوج، وربما عمل أناس في مهنة حواق (كناس).

وقد كتبت من بضع سنين مقالا عن هذا الأمر لعلي أستعيد مضمونه كما يلي:

في البحث عن الجودة مسارب ومسارات جميلة، أيا كانت الجودة في أداء عملي أو إنتاج صناعي متعة من التشويق وربما التسويق.

والجود طباع مكتسبة في الإيثار والنجدة لفعل العمل الإيجابي، يقابل بتقدير في غالب الأحوال من الأسوياء. اللغة كائن قابل للتجديد والتطوير، والعربية في ظني من أغنى اللغات جودة وتجددا.

نشأت أجيال في مختلف أركان بلادنا السعودية وهي تتوارث سماع كلمات ذات دلالات راقية في المعنى والمبنى، ربما مع تطور حراك المجتمع الفكري والاجتماعي تداخلت كلمات وحلت مثلها محل بعض في الاستعمال اليومي في اللغة المحكية، لكن بعض الكلمات ما زال ذا وقع وإيقاعات كلما تقادم بها الدهر، بقيت ذات جماليات واسعة ودلالات راقية.

وأحسب أن مما رسخ في الذاكرة تراكما منذ الطفولة ما كنت أسمعه في بواكير طفولتي من بعض الكلمات قد زاد لدي من القناعة بأن في اللغة كلمات لها من الفصاحة ما يغري بالحفاظ على استخدامها اليوم بفاعلية أكثر جودة وجدية في المعاني والدلالات. كنت أسمع في الطائف مدينة بداياتي الجميلة جملة: «تجاود يا واد؟! تجاودي يا ولية؟ تشتغل صبي؟؟»، وتعني سؤال الباحث عن العمل من الذكور في الأصل.

ويقابل هذا في جنوب السعودية المحتوى والمضمون نفسه بالسؤال:

" تستعطي يا صبي؟!"، وبالبحث في لسان العرب لابن منظور رحمه الله، فقد وجدت:

وقد جاد جوده وأجاد: أتى بالجيد من القول والفعل، وجاودت فلان أي غلبته بالجود.

وفي الحديث: تجودتها لك أي اخترت الأجود منها.

ومن الحديث: تركت أهل مكة وقد جيدوا، أي مطروا مطرا جودا. وفي المعاطاة تعني المناولة، استعطى وتعطى: سأله العطاء، واستعطى الناس طلب إليهم وسألهم.،عاطى الصبي أهله، عمل له وناوله ما أرادوا، ويقال: عطيته وعاطيته: أي خدمته وقمت بأمره.

قال ذو الرمة:

تعاطيه أحيانا، إذا جيد جوده

رضاباكطعم الزنجبيل المعسل

وأعتقد أن المعاطاة هي المشارطة في الاتفاق على أداء العمل، وفي حال الاتفاق يقوم المستعطي بأداء العمل، ويقوم المعاطي بأداء الأجر حال انتهاء العمل.

فإذا عاطى رجب المستعطي شعبان على بناء وإصلاح فرضة أو جدار متهدم أو تعديل خلل ما، فإن التعاطي بين الرجلين هو تعاقد كامل الأركان بالرضا والتوافق.

وفي ظني أن هذين الاستعمالين أكثر رقيا لغة ودلالة وتحضرا في لغة التوظيف وتوصيف العمل. بكلمات قصيرة موجزة لها في الفصاحة عمق ورسوخ، وفي اختصار الوصف ودقته ما يغري بحسن الاستخدام ورقي التخاطب والخطاب.

ولعل الجهات المعنية بالتوظيف والاستخدام والاستقدام تجد في هاتين الكلمتين مجالا في الجود والعطاء من أرباب الأعمال والباحثين عن العمل.

فلعل جود كل من العامل بجهده وجودة إنتاجه وإخلاصه يقابله جود رب العمل في الوفاء بالأجر وحسن التعامل على الأقل أن يسمى العامل مجاودا أو مستعطيا بدلا من مستخدم أو خادم أو سواق أو راع.

أنا أحب أن أستعطي بجهدي وإنتاجي وأن أعطي مقابل ذلك عطية ليس فيها صدقة أو شفقة، بل هي عون وعطاء مقابل أداء عمل. والتعاطي بين المجاود / المستعطي وصاحب العمل هو جود متبادل وجودة متعانقة ترتقي بالتعامل والتواصل والاتصال؟.

أليس في هذا مجالات للإبداع لغة وتعاملا من خلال كلمات عربية جميلة؟.

وكما يقول الأهلون في نجران: الله يهانيكم ويغانيكم.