كلنا على علم بأدوار الحياة الطبيعية: أمومة، أبوية، أخوة، صداقة و و و.. إلخ.

قد نُضيف ألقابا أخرى ذات مفهوم مهني أو مادي لتلك الأدوار كنوع من الإطراء والإعجاب:

صندوق الأسرار، خدوم، ذراع يمنى، سند، مرسول حب.. إلخ.

لكن دور المقاول أو متعهد البناء هذا دور جديد، إلى جانب أنه دور صعب جدا.

قد يكون ذلك المقاول نجارا، حدادا، حبالا.. إلخ.

أن تكون المسؤول عن البناء تلك المسؤولية الكاملة مهما حدث وكأنك بمثابة شركة مقاولات بأكملها ذات كيان شخصي،فإلى جانب توقيعك لعقد البناء،وقعت على عقد التأمين الشامل أيضا؛ فلا خراج لك من ذلك العقد سوى الاستمرار في البناء والبناء فقط.

هدم، تلف، ضرر، إهمال، سوء استخدام، تخريب، التماس، غرق، تسريب، حريق، عوامل مناخية عوامل.. إلخ، مهما كانت الأسباب أنت ذلك الخط الساخن كونك مسؤول البناء الموجود أعلى القائمة، وذو العقد ساري المفعول والأبدي، رغم أن ما عداك لا يعرف الأبدية.

لا يهمهم استعدادك، جاهزيتك، أولوياتك، جدولك، أدواتك، طاقتك فما بال الشعور الغض حين غدا مكلوما في كل مرة للبناء.

الغريب ذلك التناقض الذي يُصاحب رحلة البناء تلك، فرغم معرفتهم التامة بأهميته وتغنيهم بأن "يدا واحدة لا تصفق"، إلا أن هذا الشعار كان مقتصرا على التصفيق، في حين أننا ظنناه يشمل البناء كونه أهم وأحوج لتلك اليد.

لبنة فوق أخرى بينهما مادة لينة مُزجت بمقادير معينة وبعناية فائقة وتحت درجة حرارة ورطوبة مدروسة بخط زمني محسوب فما تلبث أن تصبح صلبة لتشد ما بين اللبنات، يتغطيها مادة أُخرى لها معايير وطرق إعداد، وتتطلب مهارات صقل ورؤية فيزيائية لصنع قالب متساوي الأطراف، لتصبح تلك اللبنات على تعددها واختلاف أحجامها ومقاساتها كيانا واحدا لا يتخلله فراغ ولا يشكو الميل، كيان منيع لا يُخترق لكنه ذي أبواب ونوافذ صُممت ووضعت حسب كينونته منذ البداية تبعا لماهيته والغرض من استخدامه.

ليس كل ما يُبنى هو قلعة، وليس كل لبنة على لبنة هي سورٌ حصين نوليس للسجون أبواب مُطلة، ولا الغُرف غُرف دون شرفات ونوافذ و رواشين.

لكل رغبة تصميم خاص يُحاكيها ويترجمها، قالب ملموس على أرض الواقع، هذا هو الجانب السحري في البناء: تجسيد الخيال حقيقة حية تُرى بالعين المجردة.

لكن التأمين على ذلك البناء هو الشاق والمُضني، فالبدايات غالبا ساحرة ومشتركة، وهذا هو الممتع، لكن الرحلة حين تطول، تقل الصحبة فيها إلى أن تظل وحدك في ذلك السبيل، وحدك رغم أنهم يخبرونك بين الحين والآخر بوجودهم، فأنت ما زلت متعهد البناء الأوحد بعد أن كنت مُجسد المتعة. وذلك المبدع الذي ربط بين الخيال والواقع، وفاتح الآفاق ومأذون الخواطر الذي جمع بين ما نتخيل وما نعيش، ومهندس الأحلام الذي صمم أرجوحة لبنات أفكارنا كفرصة للقدوم إلى أرض اليقظة.

فحين انقلبت الآية من مفهوم بناء ذي مهمة فخرية إلى متعهد بناء حتما ستصاب بخيبات أمل، ذلك الأمل الذي لم يبق لك سواه، هو يدك الأخرى حين انفلتت كل الأيدي التي صفقت كثيرا في حفلات البناء الأول، وما زلت تمارس البناء، رغم أن رخصتك منتهية منذ زمن، لأنك نُصبت مقاول الفلس.