تتشكل جدة القديمة التي كان يحيط بها السور من أربع حارت رئيسة هي «الشام والمظلوم واليمن والبحر»، ويغلب على سكان حارة الشام تقليديًّا الثراء والاشـتـغـال بـالتـجـارة، بينما ينتمي جل سكان حـارتي اليمن والمظلوم إلى الطوائف المهنية التقليدية كالبناء والنجارة والعطارة وغيرها، أما غالبية سكان حارة البحر فهم من طوائف البحارة الذين ارتبطت لقمة عيشهم بالبحر.

وترجع أسماء الحارات إلى مواقعها من المدينة، فأهل جدة يطلقون على الشمال «شام» وعلى الجنوب «يمن» وعلى الغرب «بحر»، ومن هنا جاءت تسمية تلك الحارات، فحارة الشام تقع في الشمال الغربي من المدينة، وتقع في حدودها البوابة الشهيرة في سور جدة القديم المعروفة باسم «باب جديد»، وحارة اليمن تقع في الجنوب الشرقي، وفي حدودها تقع البوابة الجنوبية من السور المسماة «باب شريف»، وتقع حارة البحر في الجنوب الغربي وفي نطاقها يقع «باب البنط».

أمـا حـارة «المظلوم» وهي التي تمتد من الشمال الشرقي إلى وسط المدينة، ويقع في مـجـالـهـا «باب مكة» وهو الباب الشرقي من السـور فـإن لتسميتها «المظلوم» قصـة تاريخية معروفة، إذ حدث في ولاية الشريف مبارك بن أحـمـد بن زيد الأولى ۱۱۳۲ ـ ١١۳۳هـ فـتنة في المدينة بين أغـوات المدينة ورجـال حـامـيـتـهـا من العسكر، حينما أراد رجل من توابع الأغوات الانخراط في سلك الجندية فحيل بينه وبين ذلك، فغضب الأغوات وأغلظ بعضهم القول لرجال الحامية فثارت الفتنة، وتحصن الأغوات بالمسجد ، فأراد قاضي المدينة أن يتوسط للصلح فامتنع الأغوات عن الحضور إلى المجلس، فاعتبرهم القاضي عصاة وأمر بقتالهم، ثم ما لبث الأغوات أن طلبوا الأمان، فأبي رجال الحامية إلا بتقديم كبارهم إلى مكة ليرى الشريف مبارك رأي الشرع فيهم ، فقبلوا ذلك، وتقدم من كبارهـم خـمسة أو ستة أشخاص اعتقلتهم الحامية وأرسلتهم إلى الشريف في مكة، فثبتت إدانتهم لديه فكتب إلى الخليفـة بذلك، فجاءت الموافقة بعقوبة بعضهم ونفي الآخرين.

ولكن بعض الأغوات قام بعد ذلك بالاتصـال بعـاصـمـة الخـلافـة في تركيا وأقنعـوا المسؤولين بأنهم كانوا مظلومين، وأن أسباب الفتنة كانت بسبب وشاية بعض أهل المدينة وعلى رأسهم أحد الأعيان فصدر الأمر بإعدامه وبعض المتهمين، ففر من المدينة إلى جدة ولكن حاكم جدة قبض عليه ونفذ فيه حكم الإعدام شنقا ثم تركه مسجى في بعض الشوارع حتى توسط له بعض المقربين ودفنوه في هذه الحارة، التي أصبحت منذ ذلك التاريخ تنسب إليه.

والحارة التقليدية في جدة وحدة إجتماعية يرتبط أفرادها برابط الجوار الذي تحول بفعل الزمن إلى حالة من العصبية دفعت بهم إلى الكثير من التنافس، بل والتناحر مع غيرهم من الحارات، حتى أن مواكب الأعراس كانت لا تستطيع الانتقال من حارة إلى أخرى إلا بعد استئذان عـمـدة تلك المحلة، وفي حالة الخروج عن ذلك العرف فإن الفرح يتحول عادة إلى مأساة، حيث يتصدى أبناء تلك الحارة لموكب العرس ويمنعوه بالقوة من تجاوز حدود حارتهم، وقد أفرزت تلك العصبيات التي كانت تعيشها الأحياء جملة من الرجال في كل حي يسـمـونـهم «المشاكلة» والواحد منهم «مشكل»، وعلى كاهل هؤلاء تقع مسؤولية حماية الحارة من الأغراب وأبناء الحارات الأخرى وفق تلك الرؤية العصبية التي كانت سائدة.

ومن حسن حظ أحياء جدة القديمة أنها لاتزال تحتفظ بقدر كبير من مبانيها وشوارعها بل وأزقتها القديمة، وهناك قدر من الجهود تبذلها أمانة المدينة للمحافظة على هذا الجزء التاريخي منها.

أما ضواحي جدة القديمة التي أصبحت اليوم بعض حاراتها فهي الرويس، وقد اشتغل أهلها بالتجارة وأعمال البحر، ونزلة بني مـالك والنزلة اليـمـانية، وقد اشتغل أهل النزلتين بالتجارة واستضافة القوافل البرية.

ومنذ إزالة سـور جـدة نشـأت العديد من الأحياء الجديدة، ومن أبرزها البغدادية نسبة إلى أول من سكنها وهو السيد موسى بغدادي، والهنداوية نسبة إلى السيد عبدالرزاق هنداوي وهو من أوائل من سكنها، والعمارية نسبة إلى أسرة العماري، والسبيل والصحيفة والكندرة وكانت تضم عددا من الآبار والصهاريج القديمة..

وهناك حارات أخرى مثل الشرفية والقريات والثعالبة، وقد كانت مزارع موسمية تتم زراعتها عقب هبوط الأمطار، وحارة الشاطيء «الجنوبية».

ومن أحدث وأجمل أحياء جدة اليوم تلك الأحياء الشمالية مثل أحياء السلامة والروضة والخالدية والكورنيش والبوادي والنزهة والصفا والفيصلية وغيرها من الأحياء التي يصعب حصرها.

1998*

* كاتب وصحافي سعودي «1943 - 2011».