استكمالاً للمقال عن النقاش الدائر حول حوار الدكتور سعد الصويان مع المبدع عبدالله المديفر تأتي هذه التكملة.

صمود المملكة العربية السعودية كحصن استقرار ورخاء وتطوير في منطقة إقليمية موبوءة بكل أنواع التحريض الفئوي، وفساد الأنظمة وانهيار الدول، يعطي شهادة تاريخية على حسن الإدارة السياسية والحوكمة الحكيمة.

الحاكم المستنير هو الذي يدرك في كل لحظة تاريخية أهمية الانتقال من حالة استقرار معيشي لم تعد تتوفر لها نفس المواصفات القديمة إلى وضع أقوى وأكثر اعتمادًا على الثروات الوطنية ورأس المال البشري.

بما أنه قد قيض الله لنا الحكم المستنير استمرارًا لفكر مؤسس الكيان الأول، وبدأ بالفعل مشروع التحول التجديدي الكبير فلا عذر لأي مواطن أن يتخلف عنه، وبالتأكيد بقناعة الوضوح التثقيفي المقدم له عن قصور حضارته المعاصرة في العلوم والتقنيات والأبحاث والفنون، مقارنة بحضارات معاصرة سبقتها وتقدمت عليها بمراحل شاسعة.

عندما قرر الحكم البروسي الألماني المستنير فريدريك الثاني نقل مقاطعته بروسيا من الضعف المقلق لأحوالها العلمية والفكرية والفلسفية والفنية أمام فرنسا وإيطاليا وبريطانيا كان ضمن ما فعل تدعيم التشريعات التجديدية بأساليب التثقيف المقارن غير المجامل لمواطنيه، بين واقعهم الحضاري المتخلف أمام جوارهم الأوروبي المزدهر.

ضمن التثقيف المقارن أمر القيصر بتجهيز كل مطعم ومقهى ومشرب ومحفل شعبي بملحق مزود بالكتب والنشرات باللغة الألمانية الفصحى، على أن يعفى من يقرأ ويشرب ويأكل في ذلك الركن الثقافي من الفاتورة وتتحملها عنه خزينة الدولة.

خلال سنوات قليلة أصبحت اللغة الألمانية الفصحى هي الأوروبية الأولى في العلوم والفلسفة والموسيقى والفنون. ذلك التحول الحضاري المذهل في المقاطعة البروسية من ألمانيا جعلها مركز جذب واشعاع للوحدة الألمانية التي كانت مفككة إلى مقاطعات وإمارات متصارعة بأولويات مناطقية ومذهبية كاثوليكية / بروتستنتية وطبقية إقطاعية متنافسية.

قبل فريدريك الثاني البروسي كانت اللغة الألمانية الفصحى مهجورة في عقر دارها، فالأرستقراطيون يتخاطبون بالفرنسية، وعامة الشعب باللهجات المحلية في مقاطعاتهم، أما التعليم العالي للنخب النادرة فكان باللغة اللاتينية.

من المنطقي أن إدماج المواطن تثقيفيًا في برامج لمقارنة إنجازات حضارته المعاصرة بالحضارات المتقدمة عنها يسهل التناغم الاجتماعي مع التحولات التجديدية، ومن الأمثلة على ذلك: كشف القصور التعايشي في نسب المصاهرات والتزاوج بين الخصوصيات الاجتماعية الفرزية في مختلف المناطق، مثل اشتراط الانتساب الجهوي أو القبلي، مما يفتح التساؤل عن لماذا يتمنع بعض المجتمع عن قبول التزاوج بين شباب وشابات الجيران من الهويات الجامعة نفسها، لكنه في الوقت نفسه يتسامح مع التزاوج العابر للمحيطات والقارات بين مختلفين عنه في الأعراق والأديان واللغات والمفاهيم الحضارية!!.

كذلك من المهم المواجهة الصريحة حول تواضع الإنجازات العلمية والتقنية والبحثية للحضارة الخاصة المعاصرة، مدعمة بإحصائيات عن ماذا نستورده منهم من الضروريات والكماليات، وماذا نصدره لهم لسد الفرق الاقتصادي، وكيف نقلص أو نتخلص من هذه التبعية.

وفي هذا السياق نفسه، يأتي إبراز الخصوصيات المضيئة للثقافة الحضارية الخاصة، ومنها المفاهيم التراثية في المعايير الأخلاقية والتراتبية الأسرية وتنوع الإبداعات الفنية، باعتبار ذلك من الموروث النفيس الذي سوف ينقل ضمن وبدعم مع التحول نحو المستقبل، مقابل التخلي عن الموروث المعطل. وفي سياق التحول لا بد من المواجهة الصريحة، حول التناقص النسبي المقلق للتخاطب باللغة العربية بين أجيالنا الشابة دون الخامسة عشر، وعن ما علاقة ضمور اللغة الأصلية وهي أصل الهويات الجامعة، بتواضع الإنجازات في مجالات التنافس الشبابي المعولم الفنية والترفيهية والتربوية.

وفي الختام عودة إلى ممالحات وتلميحات الدكتور الصويان في مقابلته مع المحاور الموهوب عبدالله المديفر. أعتقد أن الدكتور الصويان في جزئيات التعايش تقيد بواجبه العلمي، واستعمل حقه كباحث انثروبولوجي ناصح لوطنه، لكنه وكما يقال باللهجة الدارجة ربما قد زود الميانة على الجميع، ببساطته المباشرة المعروفة عنه في كل مجلس وتجمع يشارك فيه.

في جزئية الحوار عن التعايش لم يقل الدكتور سعد أكثر من أن قاطرة التحول الحضاري انطلقت وأنها تتسع للجميع.