بعد عقود من سيطرة الأحياء العشوائية، وتمددها على جسد مدينة جدة، بدأت عروس البحر الأحمر تستفيق من حالة الغيبوبة التي كانت تعيشها، وتنفض عن عينيها غشاوة خيمت عليها لسنوات طويلة، وتتخلص من كابوس جثم على صدرها وأعياها وأصابها بمشكلات أعاقت نموها وكبلها ومنعها عن القيام بدورها الذي عرفت به منذ أمد بعيد، واجهة حضارية متفردة، ومركز إشعاع ثقافي وتنويري، كيف لا وهي بوابة الحجاز الأولى والمدخل الرئيسي الذي يلج منه زوار البيت العتيق وضيوف الرحمن؟

في هذا العهد الزاهر الذي نعيشه، والذي امتدت فيه يد الإصلاح لجميع جوانب الحياة في كل ربوع الوطن، وجدت جدة من يمد لها يده ويساعدها على النهوض ويعينها على الخلاص مما أصابها، فكان مشروع تطوير وسط جدة مرحلة فارقة من عمر المدينة ذات الماضي العريق.

ورغم تعدد المناشدات في الماضي، والجهود الصادقة التي بذلت لأجل تصحيح الوضع، وما قام به الحريصون على مصالح جدة، إلا أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - كانت له الكلمة الفصل والقول الحاسم، بأسلوبه المحبب الذي يميل إلى العمل الجاد والحاسم، وقاموسه الذي لا توجد فيه مفردات التسويف والمماطلة، فكان أن أطلق - بعد استيفاء الدراسات اللازمة وتوفر المعلومات الحقيقية - المخطط العام والملامح الرئيسية للمشروع الذي يعتمد أساسا على التخلص من العشوائيات ورد المظالم واستعادة الحقوق، وتم إعلان قيام شركة تطوير وسط جدة لتنفيذ أعمال المشروع.

لم تضع الشركة الوليدة مزيدًا من الوقت، وبدأت العمل فور تكوينها، واستعانت بأبرز بيوت الخدمة العالمية لوضع المخططات التي أخذت في الاعتبار الاستعانة بأحدث النظم العمرانية العصرية، واستصحبت الطراز الحجازي العريق الذي تمثل جدة عنوانه الأبرز.

تم تحديد الذين يملكون أراضيهم بأوراق ثبوتية ومستندات أصلية، وهؤلاء تم تعويضهم بصورة عادلة ومنصفة. حتى الذين تعدوا على أملاك الدولة واستباحوا أرضها وشيدوا عليها مباني استخدموا بعضها وقاموا بتأجير البعض الآخر لسنين طويلة تم منحهم فرصة كافية، وتسليمهم إنذارات على فترات متباعدة لتصحيح أوضاعهم، وترتيب أماكن جديدة للسكن فيها.

هذا النهج ليس غريبا على القيادة السعودية التي تضع حقوق الإنسان في مقدمة أولوياتها، فقد تعاملت به من قبل حتى مع الذين تجرأوا على تجاوز قوانين الدولة وأنظمتها كما حدث إبان جائحة كورونا الحالية بتوفير العلاج واللقاح لمخالفي قانون الإقامة والذين لا يملكون أوراقًا ثبوتية، لماذا؟ لأنهم في الآخر بشر كرمهم الله سبحانه وتعالى.

ونظرة سريعة إلى أهداف مشروع تطوير المدينة والتخلص من الأحياء العشوائية توضح بجلاء أنه يجسد حقوق الإنسان في أبهى معانيها، حتى الذين تم اتخاذ القرار بإزالة منازلهم فإن هذا الإجراء يمثل حماية لهم من العيش في مناطق تنعدم فيها أساسيات الرعاية الصحية وتفتقر إلى الأمن وغير صالحة للسكن الآدمي.

كذلك فإن بقية السكان كانوا يعانون من انتشار مظاهر الفوضى التي تعشش في تلك المناطق العشوائية التي تضم مجهولي هوية لا تملك الدولة عنهم معلومات كافية لأنهم دخلوا أساسًا للبلاد بطرق غير قانونية، وامتهنوا مخالفة القوانين، وتاجروا في الممنوعات، إضافة إلى كثير من التجاوزات الأخرى التي يعرفها سكان العروس ولا تخفى عليهم بطبيعة الحال.

هؤلاء ليس لديهم ما يمكن أن يحولهم إلى قيمة مضافة بأي شكل من الأشكال، لأن معظمهم ليسوا من ذوي الكفاءات، ولا يملكون القدرة أو الرغبة في العمل، وليست لديهم مهارات يمكن توظيفها لرفع مستواهم المعيشي، وإضافة إلى كل ذلك نجد أن نسبة كبيرة منهم من معتادي الإجرام ومخالفي القوانين.

الطموح الذي يملكه إنسان جدة، والرغبة في التطوير التي يحملها أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل، والدعم الكبير الذي وفرته القيادة الرشيدة كفيل بتحويل جدة إلى مدينة عصرية ذكية، تملك جميع مقومات المدن العصرية، في إطار رؤية المملكة 2030، التي تهدف في الأساس إلى رفع مستوى جودة الحياة وتحسين بيئة السكن.

المشروع الذي تبلغ تكلفته الإجمالية 75 مليار ريال يؤسس لشراكة ذكية بين القطاعين العام والخاص، وتولى تمويله صندوق الاستثمارات العامة مع مستثمرين من داخل وخارج المملكة، ويتوقع أن يشكل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني تبلغ 47 مليار ريال بحلول العام 2030، حيث يشتمل على بناء وتطوير مناطق سكنية عصرية تضم 17 ألف وحدة سكنية مع مشاريع فندقية متنوعة توفّر أكثر من 2700 غرفة.

جدة موعودة بنهضة غير مسبوقة، تعيدها كما كانت في السابق منارة للتميز وسابقة للآخرين، لاسيما إذا أخذنا في الحسبان أن المشاريع التي تم إقرارها وبدأ العمل الفعلي في إنشائها تعتمد على التقنيات المبتكرة، واستخدام أفضل تقنيات الطاقة المتجددة، ما سيسهم في دعم الاستدامة البيئية بما يتناغم مع أهداف مبادرة السعودية الخضراء. وفي القريب العاجل حتمًا سوف يعود البريق لثغر البحر الأحمر الحبيب، وترجع جدة كما كانت مضيافة ترحب بزوارها وتفتح لهم قلبها قبل أبوابها.