تساءل الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه «النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق الثقافية العربية» إن كان يوجد في الأدب شيء غير الأدبية؟. وقبل أن نحوم حول مضمون هذا السؤال، يحسن أن نوضح المقصود بـ«أدبية الأدب»، وفق نظرة «الغذامي». إنها تعني، حسب قراءتي الشخصية، النظرة إلى الأدب، بعمومه، من ناحية حقيقته الجوهرية: التاريخية أو الجمالية فحسب، دون مبضع النقد الثقافي الذي فتح مجال النظر النقدي على آفاق أوسع وأعمق من مجرد التقييم والنقد الجمالي للنصوص.

قبل أن يجيب «الغذامي» عن سؤاله، قال: «لقد شغلت أدبية الأدب حيزا عريضا في البحث النقدي على مدى قرون، ولا تزال تفعل، غير أن جهودا خارقة قد جاءت، لتكشف أشياء أخرى من وراء، ومن تحت أدبية الأدب».

ما هي تلك الأشياء التي تختفي تحت أدبية الأدب؟.

إنها تلك التي توصف بـ«ألاعيب الأدب» عندما «تشعرن» عموما؛ أي عندما تلبس قيم الشعر في تحوله من حامل لقيم إنسانية إلى حامل قيم ذاتية وأنانية، مشبعة بالكذب والفخر المجاني والنفاق والتكسب، وبعد أن تحول إلى نسق ممسكٍ بتلابيب الخطاب العربي بكل تجلياته.

كان هذا التحول قد بدأ، كما يقول «الغذامي»، عندما تحول الشعر العربي في أواخر العصر الجاهلي من مهمة الـ«نحن» التي تتنطح للدفاع عن القبيلة وقيمها، في نسق جمعي تضامني، إلى «الأنا» التي تحول بها الشاعر من صوتٍ للقبيلة إلى صوت لذاته النفعية، صوت شعري يتكسب به عن طريق مدح من لا يستحق إلا الهجاء في الغالب، وعن طريق البلاغة والمجاز إلى آليات تخدم غرضه النفعي البحت، فأصبح هناك مادح وممدوح وبضاعة شعرية: المادح يعرض بضاعته الشعرية، والممدوح يشتري بثمن غالٍ.

التحول من الـ«نحن» إلى «الأنا» كان فاتحة تحول القيم في الثقافة العربية.

كيف تم ذلك؟

ثمة قيمتان مركزيتان في النظام القبلي العربي، كما يقول «الغذامي»، هما: الكرم والشجاعة. وكلاهما آتيتان من تصور قيمي جمعي، لا مدخل لـ«الأنا» النفعية فيه. البدوي كان كريما وشجاعا، لا لأنه ينتظر مدحا من شاعر مداح، ولا لكي يتقي ذما من شاعر هجّاء.

لنتناول الكرم، بوصفه إحدى القيم التي حوَّلها النسق الشعري من قيمة إنسانية جمعية رفيعة إلى قيمة فردية نفعية أنانية، وبوصفها أيضا قيمة لا تزال متحكمة في الذات العربية حتى الآن. فلقد كان الكرم إبان العصر الجاهلي وما تلاه ذا قيمة وجودية آتية من أن المُضِيف بصفته رحّالا سيكون، بالضرورة، مستضافا في يوم من الأيام في صحراء قاحلة، لا تكاد تفي بالحاجات الضرورية للإنسان. ولو انقطعت قيمة الكرم حينها لشكل ذلك خطرا على وجود الإنسان العربي. والربط بين الكرم والوجود سيكون بالضرورة نافيا لكونه علامة على الثراء أو الوجاهة. هذه المكانة الوجودية للكرم أضاف إليها القرآن الكريم قيمة إنسانية وخُلُقِّية رفيعة، قيمة لا تنشد المديح والوجاهة، بل تنشد مساعدة الضعيف، والمحتاج، ومن انقطع به السبيل، وجاءت متمثلة في قوله تعالى: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا»، ثم جاءت السنة النبوية مستشرفة التحول النسقي اللاحق لقيمة الكرم، ضمن التحول النسق الفظيع الذي اصطبغت به القيم العربية العربية الإسلامية، ومحذرة منه في الوقت نفسه، حيث رُوِي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «شر الطعام طعام الوليمة يُمْنَعُها من يأتيها، ويُدعى إليها من يأباها». ولم تنحرف قصدية الكرم إلا مع الانحراف المفجع الذي حدث كنسق ثقافي شعري أصاب الثقافة والقيم العربية في مقتل، فجعل الكرم واجهة للتباهي، والتفاخر، والأنفة، والادعاء الأجوف. ولهذا نجد الولائم الفاخرة التي يُوضع عليها كل ما لذ وطاب من أطياب الطعام وأجوده، ويُدعى إليها من ليس بحاجة إليها أصلا، من مسؤولين كبار ووجهاء وأثرياء. بل تجد بعض المدعوين إليها يشكو من علل مرضية، تمنعه من أن يستطعم مما عليها من طعام، إلا أن النسق القيمي المتخلف يُلزمه بقبول الدعوة والجلوس على المائدة، مع ما يستتبع ذلك من تصوير المناسبة، والتركيز على أواني الطعام، وبثها عبر وسائل التواصل، ليقال إن فلانا كريم أو إنه ثري أو وجيه، أو ليُتحدث عن علاقاته الوطيدة مع المسؤولين والتجار والوجهاء. وآخر من يستفيد من هذه الولائم الكلفة هي تلك الفئات التي نص القرآن الكريم عليها، من مسكين ويتيم وضعيف ومحتاج.

ومع اكتشاف وسائل التواصل الاجتماعي، وتمدد المفعول النسقي السلبي في عمق القيم العربية، نجد فئاما، خاصة من يُطلق عليهم «مشاهير التواصل»، يعمدون إلى تصوير وجباتهم وجلوسهم عليها، ثم ينشرونها على الملأ، تباهيا بما عليها من صنوف الطعام، حتى وإن كانوا لن يأكلوه.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.