تربية الطفل: إنهم يعودون الطفل على الاستقلال بنفسه منذ أن يكون في المهد، حيث إن له حجرته الخاصة وسريره الخاص، وله ميعاد يتناول وجبته فيه، وله ميعاد يجب أن ينام فيه، وله میعاد كذلك يجب أن يستيقظ فيه، ولذلك تجد الطفل في راحة، وتجد أهله منه في راحة. فإذا كبر وترعرع عودوه على الاستقلال بنفسه، فله حجرته وألعـابه وتفكيره الخاص، ووالداه يجيبان طلباته في حدود مخصوصة، ويعودانه على الصدق والصراحة، وذلك بألا يكذبا أمامه، وألا يخادعاه. إنهم لا يدللون أطفالهم إلا في حدود معروفة، فإذا أراد الطفل أن يتجاوزها أوقفوه باللين، وإذا امتنع أوقفوه بالشدة، ولا يتأثرون ببكائه، فإذا طلب شيئا في الإمكان تنفيذه نفذوه، وإذا لم يكن في الاستطاعة تنفيذه رفضوه، وإذا بكى بسبب الرفض لم يتأثروا ببكائه، بل يتركونه حتى يسكت من تلقاء نفسه.

فإذا رأى الطفل أن بكاءه لا تأثير له على والديه، فيتوقف عن استعماله، ويعرف أنه سلاح لا يجدي، وحيلة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهم لا يدخلون الخوف إلى نفس الطفل، ولا يأتون له بحكايات العفاريت، ولا يخوفونه من الوحدة، ولا يخوفونه من الظلام. لذلك، فإنك تجد الطفل فيهم له شخصية مستقلة، ترى فيها صورة الرجل الكامل مصغرة، لا ينقصها إلا قوة العضلات وبُعد النظر.

جامعة السوربون:

هذه الجامعة تعتبر من أرقى وأعظم الجامعات في العالم، ومن أقدمها بناءً، حيث أنشئت في القرن الثالث عشر الميلادي، وكانت في الأصل مدرسة للعلوم الدينية، ثم تطورت مع مجموعة من المعاهد العلمية العالية. وقد تخرج فيها كثير من العباقرة وقادة الفكر، وأنجبت رجالا عظاما.

وهناك في باريس كثير من المعاهد والكليات التي لا يكاد يحصرها العد، حيث إنك تجد لكل فرع من فروع العلم كلية خاصة به، وإليك أشهر الكليات في باريس: كليات الطب بمختلف فروعه، ويشمل طب الإنسان وطب الحيوان، وكليات العلوم الطبيعية بمختلف فروعها، وكليات الرياضيات والهندسة، وتشمل فن العمارة والميكانيك والكهرباء والمعابر والجسور والطرق، وكليات الحقوق، وكليات الآداب والفلسفة على اختلاف شعوبها وأزمانها، وكليات الفنون الجميلة، من نحت وتصوير وموسيقى، وما إلى ذلك.

ويتلقى العلم في هذه الكليات العظيمة طلاب كثيرون من جميع بقاع العالم. وعلى العموم، فإن باريس تعتبر أعظم مدينة لإشعاع العلوم والمعارف في جميع نواحي المعمورة.

كما أنها تعتبر ملتقى لجميع عباقرة العلوم والفنون من جميع الأمم والأجناس. المدينة الجامعية: هي بلدة مستقلة وسط باريس، ولكن لها نظاما خاصا خارجا عن نظام باريس.

إنها ملتقى الطلاب من جميع بقاع الدنيا، وأنت إذا دخلتها ترى أجناس البشر فيها على اختلاف ألوانهم وأحجامهم ولغاتهم وعاداتهم، وإذا دخلت هذه المدينة رأيت جنينات وارفة الظلال، منسقة الحدائق، نظيفة الطرقات، وترى بيوت الطلبة وملاعبهم ومجتمعاتهم العامة في أنحاء هذه المدينة. وتتسع المدينة الجامعية لما ينيف على أربعة آلاف طالب.

وقد أفسحت الحكومة الفرنسية المجال لأي حكومة من حكومات الدنيـا أن تبني دارا لطلبتها في هذه المدينة، وقد رأيت فيها دورا كثيرة لكثير من الحكومات، ولم أر دارا لحكومة إسلامية ما عدا دار الحكومة التونسية.

1952*

* أديب وصحافي سعودي «1912 - 2011»