لإعادة كتابة تاريخ المملكة وفق معطيات صحيحة، ولتسليط الضوء على حقبة بالغة الأهمية من تاريخ هذا الوطن المعطاء، صدر المرسوم الملكي الكريم بتحديد يوم الثاني والعشرين من فبراير من كل عام يومًا لتأسيس المملكة العربية السعودية، تقديرًا لما بذله الإمام محمد بن سعود من جهود مضنية خلال عهد الدولة السعودية الأولى.

هذا اليوم يعتبر مصدر فخر واعتزاز للشعب السعودي، لما يمثله من انتماء للوطن وارتباط بجذور هذه الدولة، وإعادة جزء بالغ الأهمية من تاريخ المملكة إلى دائرة الضوء من جديد، وتذكير الأجيال الناشئة بما بذله أسلافهم الكرام من جهود، وما بذلوه من عرق، وما قاموا به لأجل تأسيس دولتهم التي يفتخرون بالانتماء إليها. كما أن الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة يربط الشعب السعودي النبيل بتاريخه العريق الذي يرجع لثلاثة قرون خلت؛ واستلهام العبر التي ترتبت على تلك الجهود الكبيرة.

لذلك يبدو واضحا سبب الاهتمام الكبير الذي توليه الدولة، لا سيما في هذا العهد الزاهر تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - بالدرعية، عاصمة تلك الحقبة التي تمكن فيها الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - من تأسيس الدولة السعودية الأولى التي قامت على مبدأ الاستقلال السياسي وعدم التبعية لأي نفوذ، وهو ما تتمسك المملكة طوال تاريخها بالسير عليه. فقد أصبحت الدرعية تمثل اليوم أكبر مشروع تراثي في العالم، بعد أن كانت ذات يوم مركزًا للحكم والتجارة.

وتحدثنا كتب التاريخ عن الإمام محمد بن سعود، بأنه كان سابقا لعصره، وصاحب قدرات إدارية فذة وعبقرية سياسية تثير الإعجاب، فقد استطاع خلال فترة حكمه توحيد المجتمع ونقله من حالة الشتات والفرقة والتشرذم إلى مرحلة الدولة والنظام والوحدة السياسية، وهو ما لم تعرفه المنطقة إلا في عهد النبوة وفترات حكم الخلفاء الراشدين.

وبالنظر إلى الأحداث التي كانت سائدة خلال تلك الحقبة يجد المتأمل والباحث أن الدولة قامت على مبادئ راسخة وقيم أصيلة، قوامها العدل وأساسها القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي القيم والمعايير التي ما زالت قائمة ومرعية حتى اليوم واعتمد عليها المغفور له - بإذن الله - الملك عبد العزيز آل سعود وسار عليها أبناؤه الملوك البررة من بعده.

هذا الارتباط يثبت حقيقة واضحة هي أن مؤسسي هذه البلاد أدركوا منذ وقت مبكر طبيعة الشعب الذي يحكمونه، وكانت رؤيتهم في غاية الشفافية، ومبادئهم متشابهة ومتطابقة، وهي إسعاد الإنسان، وتحقيق رفاهيته ورفع مستوى معيشته، عبر قيم أساسية تتمثل في بسط العدل وإقرار المساواة وتنزيل الحوكمة وعدم التمييز بين المواطنين إلا بمقدار ما يبذله كل واحد من جهد لخدمة بلاده ورفعة شأنها. لذلك فإن الثبات على هذا النهج القويم هو السبب بعد توفيق الله سبحانه وتعالى في استمرار هذه الدولة منذ 300 عام، رغم محاولات الأعداء وتكاثر المؤامرات والمكائد.

ومن وجهة نظري فإن التشابه في هذه القيم، والتماثل في المفاهيم، والتطابق في الرؤى بين نهج الإمام محمد بن سعود، والملك عبد العزيز آل سعود، واستمرار الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله - رحمهم الله جميعًا - إلى العهد الحالي تحت قيادة الملك سلمان - حفظه الله - على ذات النهج الحكيم هو كلمة السر في الاستقرار الذي تحظى به المملكة، وتوفر الأمن والأمان، رغم أنها تقع وسط محيط مضطرب. كما أنه هو السبب الرئيسي في استمرار الشعب السعودي كله على نهج واحد، وبمفاهيم مشتركة وأسلوب حياة يكاد يصل حد التطابق، وكأنه أسرة واحدة، وهو ما يمثل أسمى معاني الوحدة الوطنية الحقيقية.

قطعا فإن هناك من تفاصيل الدولة السعودية الأولى والثانية ما يستحق أن تسلط عليه الأضواء، وأن يدركه الجميع، لأنه سيكون مدخلا رئيسيا لتعزيز اللحمة الوطنية، لا سيما وأن ما امتازت به فترة حكم الإمام محمد بن سعود من خصائص جديرة بأن يتم تقديمها، فقد كان حاكمًا من طراز نادر، فكتب التاريخ تشير إلى أنه تمكن من تأسيس دولة حديثة بالمعنى الحقيقي عندما تولى إمارة الدرعية عام 1139هـ (1727م)، رغم أن المنطقة كلها كانت تمر بظروفٍ استثنائية، وكانت الدرعية تعاني الضعف والانقسام مثل بقية الإمارات القريبة.

إضافة إلى انتشار الاضطراب السياسي وفقدان الأمن في جزيرة العرب فقد زاد انتشار الطاعون من صعوبة الأحوال، لكن الإمام استطاع النهوض بإمارته وسط الركام، ونشر الاستقرار والأمن، ليس في محيطه فقط بل في كافة أنحاء المنطقة، مستعينًا بالصادقين من حوله الذين كانوا يحلمون بقيام دولة عربية قوية، لا مكان فيها للتعصبات القبلية الضيقة؛ تعينهم وتحميهم من تسلط الأعراق الأخرى على مقدراتهم، مثل الفرس والأتراك.

هكذا شاءت إرادة الله أن يقيض لهذه الأرض المباركة على مدار تاريخها رجالًا أوفياء، يأخذون بأيدي شعبها نحو مراقي المجد والرفعة، وكما جاء الإمام محمد بن سعود كالأمل لأبناء عصره، وأسس دولته وبسط الأمن ونشر العدل، فقد شهدت الأرض ذاتها مجيء الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، بشارة خير وفألًا حسنا، فقامت على يديه المملكة العربية السعودية بوضعها الحالي، وأعطى إشارة الانطلاق لدولة فتية ما لبثت أن حلقت في سماوات العزة والرفعة، وباتت تنافس نفسها وتسابق الزمن نحو التطور والنماء.

هذه القيم، والتفاصيل التي لازمت تلك الفترة لا ينبغي أن تظل حبيسة الكتب أو محصورة بين النخب والمتخصصين في علم التاريخ، بل يجب أن تسلط عليها الأضواء، ويتم تمليكها للشباب والأجيال الناشئة، حتى يزدادوا حبًا على حب لبلادهم، وهو ما أتصور أن تشهده الساحة الثقافية في الفترة المقبلة بإذن الله.