لم أكن متحمساً حماستي المعهودة، للكتابة عن الموضوع الذي أنا بصدد الحديث عنه، لولا أني ظفرت في غضون الساعات الماضيات بتصوير قديم، مضى على لحظة تصويره ما يقارب العشرين عاماً، أهمل دون قصد مني بين مقتنياتي المحفوظة في خزانتي العتيقة.

وقد فاحت منه رائحة الأشياء البالية، وهذا ما فتح شهيتي للكتابة عنه، ذلك أن قسم الاستديوهات في إذاعة جدة سابقاً، قسم العمليات حالياً، لم يكن بالقسم التقليدي الذي يؤدي عمله الفني المناط به فنياً فحسب، بل تعدى ذلك، فللقسم طابع تعاوني خاص وميزة اجتماعية استثنائية، انفرد بها عن بقية الأقسام الأخرى المتواجدة في مبنى الإذاعة، وقد تمكن الإداريون الذين تولوا إدارته في ذلك الحين بكفاءة وظيفية عالية وحنكة مهنية مميزة من خلال تلك الخبرات التي تأصلت فيهم بتسارع الأيام، تمكنوا من لم شمل الأسرة الفنية خارج إطار العمل الإذاعي، أمثال حسن إسماعيل الصيني مدير الشؤون الهندسية حينذاك، وسامي نيازي مدير الأستديوهات في تلك الفترة الزمنية، وقد كان لي شرف العمل تحت إدارتهما بعد أن انتقلت من قسم الوكالات العالمية التابعة لإدارة قسم الأخبار في ذلك الوقت.

أما لماذا قسم الأستديوهات له طابع خاص وميزة مختلفة عن باقي الأقسام والإدارات الأخرى؟ فالإجابة عن هذا السؤال تتلخص في محتوى هذا الشريط، ذكرى الإفطار السنوي في شهر رمضان المبارك الذي تتعهده أسرة هذا القسم على كورنيش جدة، وفي الهواء الطلق وسيمفونية أمواج البحر تعزف لحظتها أجمل الألحان، هي الرسالة الضمنية لمحتوى هذا الفيديو الذي أثار شجوني ودفع بي للكتابة.

وحتى أكون أكثر وضوحاً، أقول ببساطة شديدة، أن الوضع التفاعلي وحالة التضافر الاجتماعي بين الزملاء في هذا القسم هي العامل الأساس لهذا التميز، ذلك أن الزملاء كانوا يقيمون وعلى فترات متباعدة اجتماعات خارجية بين الحين والآخر، وهذا ما لم يتوفر في الأقسام الأخرى بالعدد الكبير والفعل المتكرر.

ففي كل بضعة أشهر تقريباً، يجتمع أفراد هذ القسم خارج إطار العمل مرة أو مرتين على شاطئ البحر، في أحضان كورنيش جدة أو في إحدى الاسترحات العامة أو في أحد مطاعم الأسماك الكبرى التي بدأت تأخذ في الانتشار والتوسع شمال جدة وشرقها، والتي تشتهر بتقديم الأكلات البحرية بنكهات خاصة وبسعر خاص أيضا. تلك الاجتماعات أو الملتقيات كانت أخوية بشكل غير متوقع وغير معتاد، على تباين مستويات الزملاء الفكرية والعمرية، وعلى اختلاف أمزجتهم المتقلبة، إلا أنها كانت تسودها الألفة والمحبة التي ساعدت على الاستقرار النفسي للموظف، وعلى عشق العمل الوظيفي بالدرجة الأولى، لك أن تتخيل عزيزي القارئ أن عددا مكونا من خمسين فرداً يزيد هذا العدد وينقص، كانوا يلتفون ويلتقون في استراحة واحدة، استؤجرت (بالقطة).

المساحة الخضراء كانت المطلب لهواة ممارسة كرة القدم، أما المساء، عذراً فلن أحدثك عن شاعرية ذلك المساء، يكفي أن أقول إن عشاق كرة الطائرة ليسوا بأوفر حظاً من سابقيهم. وكأني الآن أرى من يلتقط أنفاسه بعد أن أخذ شوطاً لا بأس به في حوض السباحة، ولليل عشاقه فبه يحلو السمر مع الموسيقار عبدالرحمن النجراني، ويبدأ المرح بتبادل القصص الفكاهية والروايات الخيالية التي تتطاير منها الضحكات والصيحات هنا وهناك، لعبة البلوت هي القاسم المشترك في كل الملتقيات، ناهيك عن الكيف وما أدراك ما الكيف حين تفوح رائحة الشيشة لتنشر عبقها في أرجاء المكان، إلى أن يحين موعد العشاء، ثم يبدأ العقد المنتظم في الانفراط، ويشرع الكثير من الزملاء في الانصراف مع ساعات الفجر الأولى.

لن أكون مبالغاً إن قلت إن هناك زملاء من أقسام أخرى كانوا يغبطوننا على تلك الملتقيات، ويتطلعون الى الانضمام إلينا، ويتحينون الفرص المناسبة كي يلتحقوا بنا ويشاركوننا أنسنا.

هذا الوضع لم يعد قائماً الآن، فور أن تبدلت الأمور، وتغيرت الأحوال في السنوات الأخيرة، وعزف الكثير من الزملاء عن حضور مثل هذه الملتقيات (سوى تلك اللقاءات الجانبية في المقاهي الحديثة والتي لا يتعدى الحضور فيها عن أربعة أفراد فقط)، رغم أننا أحوج ما نكون إليها في هذه المرحلة العمرية، أيام لا تنسى، نعم كانت أيام.