أكتب إليكم بجوار مضخةٍ تصدر صوتاً عالياً تابعة لأحد المشاريع الإنشائية، بالكاد تسمع صوت شيء غيرها.. عندئذٍ جادت قريحتي الغنائية فبدأت أغني مستغلا ألا أحد يسمعني..

أعجبت بصوتي حتى يُخيّل إليّ أنني في مصاف المطربين الكبار، (أقولكم والله انبسطت وانطربت وأنا أشدو أعذب الألحان)!..

بدءاً من المواويل والموشحات.. مروراً بالأغاني الراقية وغير الراقية.. انتهاء بالأناشيد والشيلات وأغاني أفلام الكرتون.. حتى الأغاني الأجنبية كان لها الحظ من صوتي الجميل..

وما إن أطفئت المضخة حتى بدا صوتي نشازاً، بل إنه النشاز ذاته - والعياذ بالله -. أتدرون لماذا حصل ذلك؟! لأنه أثناء تشغيل المضخة لم أكن أستمع إلا إلى صوتي الداخلي.. ومن هنا تأتي الثقة ويكون الانبهار.

فكلما كنتَ أبعد عن المؤثرات الخارجية ارتفع مستوى تصالحك مع ذاتك..

صدق من قال إن القبول أو الرفض يأتيان من الداخل، وما الاضطراب والعقد النفسية إلا نتيجة مؤثرات خارجية.

وإنك إن لم تستمد المشاعر الإيجابية من ذاتك فلا تنتظرها من أحد، وإن لم تؤمن بقدراتك - بعد قدرة الله وفضله - فلن يعطيك إياها أحد، بل إن المجتمع هو العامل المثبط الأول للإنجازات، ولو كان الطفل يهتم بمن حوله ويحسب لنظراتهم ألف حساب لتوقفت محاولاته في المشي عند أول عثرة.

ألم تقرأوا عن ذلك الذي تسلق الجبل ووصل إلى قمة صعبة رغم تحذيرات الناس له بأنه لن يستطيع؟

وفي نهاية الأمر عرفوا أنه أصم لا يسمع.

رغم أن الأصل أن يكون المجتمع هو الداعم والمحفز للفرد، وهذا ما لم يعد يحصل إلا في نطاقات ضيقة واستثنائية أو لغايات محددة، لذلك استجيبوا لمؤثراتكم الداخلية وتناغموا مع الطبيعة واتركوا البشر يثرثرون. قيل لحكيم:

هل صوتك جميل؟

قال: «يب»، إنه جميلٌ جداً.

فقيل له: فلماذا لا تغني إذاً؟

فقال: لأنّ الناس تعتقد أن دور الحكيم يقتصر على أن يقول حكماً ويمضي ولا يشارك في متع الحياة، ثم بكى.. فقيل له: ما يبكيك أيها الحكيم؟

قال: ضاعت سنوات عمري وأنا أخاف (ايش يقولون عني).

قيل: فلتغنّ لنا. فصدح الحكيم:

(شويّخ من أرض مكناس

وسط الأسواق يغني..

ايش علي أنا من الناس

وايش على الناس مني..

ايش عليّ يا صاحب

من جميع الخلايق..

افعل الخير تنجو

واتبع أهل الحقايق..

لا تقل يا ابني كلمة

إلا إن كنت صادق..

خذ كلامي في قرطاس

واكتبوا حرز عني..

ايش علي أنا من الناس

وايش على الناس مني..)

بقي أن أذكر أنني بصدد إصدار أول ألبوم غنائي، فمن المؤسف أن موهبة عظيمة مثلي تتساقط تحت دش ماء أو تُدفن بجانب مضخة!