غدت الخفة وبرمجيات الاتصال وتقنيات تحقيق الأهداف دون طيار ضمن خصائص العصر وانعكاساته على الأنماط السلوكية لمجتمعاتنا. وإزاء هذه المؤثرات تبدو التناولات المعمقة والطروحات الجادة مبعث ملل ومدعاة رتابة.. وللتغلب على هذه الإشكالية آثرت الاستهلال بفكاهة من اليمن، إذ قرر الرئيس السابق علي عبدالله صالح إطلاق قناة تلفزيونية يتزامن بثها مع إصدار صحيفة يومية.. كلاهما يحمل اسم (اليمن اليوم)!

لقد استجاب القدر لصيحات البشر ولم ينب عنهم فيما يفترض بهم القيام به.. وعندما سقطت أنظمة وتهاوت قلاع آهلة بالقوة والمال استرخت إرادة التغيير واعتقد قطاع عريض من مجتمعات الربيع العربي أن رسالة الثوار حققت أهدافها، وتطلعاتهم بلغت غايتها وشعوبهم استردت سلطتها. ولم يدر في ذهن هؤلاء ولا القوى السياسية المنشغلة بها جس السلطة أولوية الاتفاق على إطار مرجعي يحدد مسار التغيير ونطاقه.

استأثر الرقم الأول في ذروة الحكم باهتمام وتركيز المؤلفة جيوبهم، وبهذا تحول سقوطه من سدة الحكم إلى ملتقى ضغائن ومجمع أحقاد.. غابت الفكرة الكلية للتغيير.. وعلى حين غفلة ذبل الأقحوان واصفر العشب الأخضر في مختلف الساحات.

ترى أكان هذا عملاً مدبراً أم مجرد عطب فادح لحق "مكنة" الثورة؟ وكيف ومن الذي جعل الأهداف الثانوية تختطف الجماهير من الهدف الإستراتيجي الرئيس؟ وهل صحيح أن قرار الإحجام عن استكمال أهداف التغيير نابع من تقديرات منطقية عاقلة تفادت حساب الكلفة في حال الإصرار على إنجاز نصر مكتمل الأركان؟

ألم تكن مجتمعاتنا تدري أن حاضر ثوراتها ما لم يكن مختلفاً عن ماضيها فلا ضرورة تستدعي الحديث عن المستقبل، ولا موجب للاسترسال في استنطاق الآمال أو نقد الكبوات؟

أعلم أن انفصال الأزمنة عن بعضها يحتاج إلى تضحيات جسيمة وقودها الناس والمصالح والقدرات. والراجح أن شعوب الربيع بدأت ثوراتها بحماس نادر واستعداد غير محدود لتقديم مثل هذا القدر من التضحيات، ولم يكن من سبب يحمل على التراجع عدا انتقال عدوى الصراع التقليدي على السلطة من منظومة الحكم القديم إلى قلب الثورة ومساماتها الضيقة، وبهذا تداخلت الأزمنة ببعضها وتوارى ملمح التغيير الجذري الدّال على زمن بعينه.

على أن هذا التداخل المعيب لن ينسي الناس أو يسقط من أذهانهم ذكرى الثورة ولا ساحاتها، ولابد أنهم سيذهبون إلى ذات العناوين مجدداً وغالباً سيذهبون نحو ذات الخيبات السابقة!

كذلك حال الشعوب حين لا يتصدرها مشروع عظيم أو تتوهج الفكرة في عنفوان حركتها النضالية وتضيء دروبها المشتهاة، لكننا مع ذلك نقول.. ربما كان الراهن المعاش قاتماً شديد الاضطراب والتقلب، غير أن المفترض بنا ألا نستسلم لعوامل الوهن أو نحني الهامات وتنكسر إراداتنا الجمعية تحت تأثير الإحباط اليائس.

هذه أُمتنا مهما بلغ نزفها وكيفما تغولت الأحزان في أسفارها وأياً كان حجم الخراب الذي أصابها إلا أنها تتكئ على رصيد ثقافي مشرق، وهي وإن ساءت أحوالها وتردى معاشها قادرة على التماثل والنهوض.. جديرة باستئناف دورها الذي كان.

كل الحضارات على وجه الأرض أخذت نصيبها من التراجع والارتكاس، وليست الأمة العربية والإسلامية وحدها التي اقتحمتها السنن الكونية المتقلبة بين التطور والتخلف، الأمام والخلف، القوة والضعف. وهنا نسأل عن مدى استعداد وقدرة الإنسان العربي المسلم على مواجهة متطلبات التغيير إلى الأفضل. وهل يستطيع التخلص من عاداته السلبية المطبوعة على الندب وضجيج المناحات؟

وإذا لم يكن ممكناً تحرير الحاضر من إسار الماضي ومتى تعذرت محاولات فصل أحدهما عن الآخر، فكيف تتحقق معجزة النفاذ إلى تخوم المستقبل؟

لدينا ما يشبه الأمل بإمكانية اكتشاف مكنات عملاقة تعمل على تحلية الكثير من الماء المالح في مجريات الأمة، وبمقدورنا التخلص من رواسب التاريخ، ولدينا القدرة على إنفاذ العقل العربي من عقد الإيديولوجيا ولوثات الصراع الذي تثمره أداءات القوى التقليدية بهدف قهر الشعوب وخمد أنفاسها.. أجل نستطيع ذلك متى أمكن عقد تحالف آمن ووثيق بين العقل والثروة، بين الفكر المتبلور من رشح القلق النبيل من جهة وبين الإمكانات المادية من الجهة الأخرى.

فلندع السلطة جانباً ونعتزل الماضي ونكف عن ملاحقة الحاضر أو إحراج رموزه، ونبدأ فصلاً جديداً من المناجات التي نستلهم منها أشواقنا إلى المستقبل..

هذه أمتنا تُشنق على سارية الأحلام الواهمة، فلماذا لا نوفر رافعة العقل نحوها ريثما نفتديها من الضياع؟ ولم لا نبحث عن متاحات لا تكون السياسة من مستلزماتها؟

تومض الفكرة المبدعة من تحت الرماد وتلمع أحياناً كما تلتمع البروق، فإذا لم تلتقطها إرادة بشرية عملاقة فإنها تصبح سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

لن أجازف في عرض تفاصيل فكرة النفاذ إلى المستقبل، ذلك أن عملاً من هذا النوع قد لا يكون مرضياً عنه في تقديرات أطراف دولية ترى في تخلف الأمة العربية والإسلامية وصراعاتها المتكلسة ضماناً لتأمين نفوذها وحماية مصالحها، لهذا نكتفي باللجوء إلى البلدان التي تحرسها قيم إسلامية وعروبية أثيرة ويؤمل فيها لعب دور تاريخي وبناء شراكة خلاقة في تحقيق المواءمة بين المادة والروح.

أتلفّت ذات اليمين وذات الشمال غير أن أمتنا تولي وجهها صوب أول بيت وضع للناس.