إذا كان العقوق يظهر في صوره الجلية والمتكررة على صورة عقوق من الأبناء تجاه والديهم، فإن ثمة عقوق يمضي في طريق معاكس تماما، يمثله في الغالب تجاهل الآباء للأبناء، وهو تجاهل يأتي أحيانا على نحو مستمر قد يبدأ منذ الولادة، ليضرب عرض الحائط بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته».

وإذا كانت هناك صور لأخطاء الآباء تجاه الأبناء مثل التفرقة في المعاملة، أو التشدد المبالغ فيه في التعامل، أو الاستبداد في الرأي، أو إلزامهم بدراسة أو عمل لا يرغبونه، فإن التجاهل التام للأبناء واعتبارهم كأنهم لم يكونوا عبر هجرهم، أو حتى عدم الاعتراف بهم، يعد أشد تلك الصور قسوة، وهو أمر يمكن تصوره غالبا في حال انفصال أحد الوالدين عن الآخر، حيث قد يبادر الأب مثلا إلى هجر صغاره وعدم التعرف عليهم، وتجنب الإنفاق عليهم، وهي صور طالما تكررت على الأخص عند الزواج من خارج البلد، حيث ينجب الأب طفلا لكنه يدير له ظهره ويتركه في بلد أمه حتى دون تسجيله رسميا في بعض الأحيان.

حكايات معاشة

تساءلت (م.ع) عن عدم اهتمام طليقها بأبنائه بعد وقوع الطلاق، وتقول «لم يعد يسأل عنهم، وهو لا يرعى شؤونهم، ولا يهتم بهم وبأحوالهم، وحتى في حال مرضهم فإنه لا يكترث به، حتى أصبحنا جميعا نعتقد أنه لا يكن لهم إلا مشاعر الكره، وأنه ينفر منهم».

وتروي إحدى المطلقات «لدي طفلة عمرها 4 سنوات، والدها رجل مهمل وغير مسؤول، وهي دائما تسأل عنه، ودائما تتمنى أن تراه، مستغربة من عدم رؤيته لها، وأنها باتت تعبر بكلماتها وحركاتها البسيطة عن أنه لم يعد يحبها»، وهي تقول «هو لا يأتي معنا، ولا يأخذني معه، موضحة أنها ترى ملامح الحزن في وجهها عندما يذكر اسم والدها»، وقالت «كثيرا ما أطلب منه رؤيتها وزيارتها، لكنه في كل مرة يقول لي إنه زارها قبل أسبوع أو أسبوعين، ولا أدري لماذا يفعل ذلك».

بدورها، رفضت فتاة أن يكون والدها هو وليها في عقد زواجها، وطلبت أن يكون عمها هو الوكيل، وقالت «لم أعرف والدي منذ صغري، فقد تخلى عني، كما تزوجت والدتي من رجل غيره، وتولت جدتي تربيتي، وعندما حضر والدي عند عقد القران، رفضت أن يعقد لي كولي، وطلبت من عمي الذي كان يسأل عني ويهتم بي أن يقوم هو بعقد قراني».

انخفاض تقدير الذات

أكد الباحث في علم الاجتماع، الدكتور يزيد بن إبراهيم الصيقل على أن «غياب الأب عن أبنائه بعد انفصاله عنهم يتعدى الغياب المادي والجسدي المحسوس إلى الأثر النفسي على الأبناء وأفراد الأسرة، حيث يتسبب بانخفاض تقدير الذات، وضعف الثقة بالنفس للطفل، ويزداد ذلك في فترة المراهقة، وافتقاد المراهق للقدوة والمثل الأعلى، كما ينعكس غياب الأب بعد انفصاله عن الأسرة سلباً عليه هو نفسه، حيث يدفعه إلى تأنيب الضمير ولوم الذات والشعور بالنقص، وقد يتصور الطفل أن الأب لم يتركهم ويهملهم إلا لعيب فيهم أو في الأم، ويترتب على هذا الغياب الشعور بالإحباط والعزلة وعدم النضج في مراحل نموه، وعدم فهم عادات المجتمع ومشكلات التكيّف والتصرف مع المواقف في بيئته وكذلك ضعف مهارات التخاطب، وقد يتسبب بتفريغ خاطئ للضغوطات والغضب نتيجةً للإحباط الذي يشعر به».

استقاء القيم

أضاف الدكتور الصيقل أن «الشخصية تنمو وتتشكل للأبناء منذ بداية حياتهم، حيث يستقون القيم والأخلاق والاتجاهات من الوالدين، وعند غياب الأب سيفتقدون جزءًا كبيراً من الإشباع العاطفي والاجتماعي، مما يدفعهم إلى البحث عن بدائل لسد غيابه من خلال اجتهاد الأم وسعيها لملء الفراغ والذي قد يصعب تعويضه لأن الأدوار تكاملية بين الأب والأم ودور كل منهما في التنشئة مختلف عن الآخر».

وبيّن أن «غياب الأب وانفصاله عن الأسرة يعني غياب السند في حياة الطفل ويؤدي إلى تدني خبراته في التعامل مع المواقف التي يواجهها في بيئته فيضطر لتسيير حياته والتعامل مع تلك المواقف من خلال الاعتماد على الذات، وقد يترتب على مواجهته لها أخطاء لم تكن لتحصل عند وجود الأب، وقد يتسبب غياب الأب في ارتفاع احتمالية الانحراف للأبناء الذين يعانون من التفكك الأسري، كما قد يتم استغلال الأبناء جنسياً من ضعاف النفوس والتكتم على ذلك».

وأضاف «من الآثار السلبية لانفصال الأب عن الأسرة انخفاض التحصيل الدراسي غالباً نتيجةً لعدم متابعة الأب، كما أن غياب الأب عن الأسرة له تبعات اقتصادية ومادية ملموسة خصوصاً عند تباين مستوى الدخل بين أسرة الفرد والأسر المحيطة في بيئته، والمقارنة مع الأقران والتقليل من احترام الأقارب لهم، ويتسبب الوضع الاقتصادي للأسرة في اعتمادها غالبا على أسرة الأم بسبب عدم استشعار المسؤولية من الأب».

وأكمل «غياب الأب يولد نفوراً تجاهه من قبل الأبناء، ويقود إلى عدم تقبلهم له بسبب مبادرته للعقوق تجاههم وتخليه عنهم فيعتبرونه عنصراً طارئاً، ومن غير المعتاد تواجده في الأسرة، كما قد يقود إلى رفض اجتماعي».

الاجتهاد في مناحي الحياة

أبان الصيقل أن «غياب الأب قد يدفع أفراد الأسرة إلى الاجتهاد في مناحي الحياة، والسعي إلى تحسين أوضاعهم الاقتصادية والدراسية».

وعن مسؤولية الأب المتجاهل لأبنائه، قال «يحاسب الأب المهمل لأبنائه شرعاً وعرفاً، ويجبر على النفقة عليهم حتى سن الرشد، ولكن كثيرا من الأسر تتحرج في ذلك رغبةً بالستر على الأب، وأملاً باستقامة حاله مستقبلاً، والإصلاح إن لم يأتِ من ذات الأب لنفسه واستشعاره للمسؤولية تجاه أبنائه وبناته فلن تجدي وسائل الضبط الرسمية وغير الرسمية في تقويم سلوكه».

تأثيرات مختلفة

من جهته، أوضح المستشار التربوي والأسري أحمد النجار أن انقطاع التواصل بين الأبناء والآباء - لأي سبب كان - له سلبيات نفسية واجتماعية على الأبناء، تختلف من ناحية تأثيرها من حالة إلى أخرى، ففي حال كان انقطاع التواصل قسرياً لا يد للآباء فيه، كالموت أو السجن، أو لأي سبب قسري آخر، يكون هناك نوع من التفهم لدى الأبناء، وهذا التفهم يخفف من الآثار السلبية بدرجة كبيرة، أما عندما ينقطع التواصل إما دون سبب واضح أو بسبب خلافات زوجية أو انفصال أو حتى انشغال بالعبث والملذات الشخصية، يكون وقع ذلك عنيفاً للغاية على الأبناء، ويتمثل ذلك جلياً في اتزانهم النفسي وثباتهم الانفعالي وتواصلهم الاجتماعي مع من حولهم، وكذلك يمتد لدراستهم وحالتهم الصحية، ويجعلهم - في كثير من الحالات - من الشخصيات السهلة القيادة، التي تتأثر بمن حولها كثيراً».

تربية نموذجية

على الرغم من التأثيرات الاجتماعية السلبية لهجر الآباء لأبنائهم، أفاد النجار بأن هذا التأثير السلبي لا يعود لكونهم تحت رعاية الأمهات، بل على العكس هذه الرعاية قد تترك آثاراً إيجابية أعظم بكثير مما لو تربوا في أكناف آبائهم، فالأمهات - وبالذات الآن - بتن أكثر وعياً وقدرة مادية، ولديهن مساحات حركة أوسع بكثير مما كانت قبل، وبتن يستطعن تربية أبنائهن تربية نموذجية مثمرة، ولكن الأثر السلبي يأتي من النقص غير المبرر عند الابن لغياب أبيه، فالأصل في التربية أنها تحليق بجناحين، جناح الأب وجناح الأم، وإن فُقِدَ أحد هذين الجناحين، فالله يضع في الجناح المتبقي قوة على استكمال التحليق.

تجريم الإهمال

يبين النجار أن القانون بأنظمته وقوانينه والتي تحفظ لكل ذي حق حقه، تُجرم الإهمال والهجر غير المبرر، ولكنها لن تستطيع - بأي حال من الأحوال - أن تُغطي الجوانب المعنوية المترتبة على التواصل الإيجابي أو الهجر المؤذي.

ويؤكد متخصصون أن غياب الآباء يقود إلى ضعف الجانب العاطفي الأبوي، وانعدام الحنان والمحبة، وقد يؤدي إلى اكتئاب الأبناء، ويسبب بعض الاضطرابات في حياتهم، ويتجلى ذلك في مشاعر الخوف والقلق التي تنتاب الأبناء بين الحين والآخر، وضعف الجوانب العلمية والفكرية والثقافية لديهم.

أثر الغياب على الأبناء

ـ انخفاض تقدير الذات

ـ ضعف الثقة بالنفس للطفل

ـ افتقاد المراهق للقدوة والمثل الأعلى

ـ الشعور بالإحباط والعزلة وعدم النضج

ـ عدم فهم عادات المجتمع ومشكلات التكيّف والتصرف مع المواقف

ـ ضعف مهارات التخاطب

ـ التفريغ الخاطئ للضغوطات والغضب

ـ تدني الخبرات في التعامل مع المواقف

ـ ارتفاع احتمالية الانحراف للأبناء الذين يعانون من التفكك الأسري

ـ احتمال استغلال الأبناء جنسياً من ضعاف النفوس

ـ انخفاض التحصيل الدراسي

ـ تبعات اقتصادية ومادية ملموسة

ـ الإحساس بالخسارة

ـ الشعور بالنفور والحقد والغضب تجاه الأب

ـ الشعور بفقدان الأمان والاحتكار والنبذ

تأثير الغياب على الأب نفسه

ـ تأنيب الضمير

ـ لوم الذات

ـ الشعور بالنقص