المفكر، أو الفيلسوف، أو العالِم، أو كيف ينظر أحدهم إلى الوجود، أمر مهم لفهم فكره أو فلسفته. أو لنقل: معرفة كيف يفكر، ومن أين ينطلق؟ وكيف تكون محصلة فكره أو فلسفته؟

في هذا المقال سنتعرف على نظرية المعرفة عند عالم الاجتماع العربي الكبير: أبي زيد، عبد الرحمن بن خلدون (ت 1406م)؛ لأهميتها للراهن العربي الذي يرزح تحت نير نظام معرفي يتحصن بـ«اللامعقول» في تدبير حياته، وإدارة معيشته.

قبل الدخول إلى دهاليز نظرية المعرفة الخلدونية، نرى أن من الملائم أن نشير إلى نُظُم المعرفة العربية، كما حددها الدكتور محمد عابد الجابري (ت 2010) بثلاثة أنظمة، هي:

أولا: النظام المعرفي البياني، أو «المعقول الديني العربي»، كما هي عبارة الجابري. والذي يقوم على آلية «قياس الغائب على الشاهد»، كمنهج في إنتاج المعرفة. ويشمل هذا النظام كل علوم البيان من نحو، وفقه، وكلام، وبلاغة. وبالجملة: نصوص اللغة والدين. ثانيا: النظام العرفاني، أو ما سماه الجابري بـ«اللامعقول العقلي». وهو يقوم، لا على المعرفة الحسية والمادية، كما لا يقوم الوحي بذاته، وإنما يقوم على ما يعرف عند العرفانيين بـ «الكشف والوصال»، الذي يعني أن المعرفة ليست مكتسبة، وإنما هي موهبة لَدُنية من الأفق الأعلى لأناس مخصصين، اجتهدوا بترويض أنفسهم على الانفصال عن الجسد وملذاته، حتى انكشفت عنهم الحجب، فصاروا يتلقون المعرفة لَدُنِيّا.

وتتسع دائرة العرفان في الإسلام لتضم التصوف، والتشيع، بجانبيه: الإمامي والإسماعيلي، وجميع التيارات التي تعتمد على التفسير الباطني للشريعة. وقد استمد هذا العقل «أدواته» من الموروث القديم السابق على الإسلام، وعلى رأسه الموروث الهرمسي.

ثالثا: النظام البرهاني، أو ما سماه الجابري بـ«المعقول العقلي».

ويتأسس على نظام معرفي يقوم إما على التجريب، أو على الاستنتاج العقلي. والمعرفة فيه تقوم على مقدمات عقلية ضرورية، ينتج عنها بالضرورة نتائج معينة. وربما يشمل هذا النظام الفلسفة الأرسطية من منطق، ورياضيات، وطبيعيات بفروعها المختلفة، وإلهيات وحتى الميتافيزيقا عموما.

هذه باختصار شديد نظم المعرفة، كما أنتجتها الثقافة العربية خلال مسيرتها الطويلة.

والسؤال الذي يحف بموضوعنا هو: كيف هي نظرية المعرفة عند ابن خلدون؟ هل هي بيانية، أم عرفانية، أم برهانية؟

يمكن القول إن نظرية المعرفة الخلدونية، وإن كانت تمد بسبب قوي إلى النظام البرهاني، إلا أنها تتميز عنه بميزة سنتحدث عنها لاحقا. وهي من ناحية أخرى تمد بسبب محدود إلى النظام البياني، وتقطع تماماً مع النظام العرفاني.

ينطلق ابن خلدون من حقيقة أن العالم مادي، وذو موجودات مادية، ومن ثم فإن معرفته لن تكون عن طريق آخر غير طريق الحواس. إن المبدأ الأول لمعرفة موجودات العالم عند ابن خلدون هو الإحساس فحسب. وهذه نظرة تتفق مع الاتجاه التجريبي، وحتى مع (كانط ت 1804) الذي يرى أن المعرفة تبدأ مع الإحساس.

إذن، تعتمد نظرية المعرفة الخلدونية على رؤية للعالم وللوجود ترى أن للمعرفة طريقين لا ثالث لهما. أحدهما: طريق المعرفة الدنيوية، والثاني: طريق المعرفة الأخروية وكل ما وراء الحس. بمعنى أنه لا وجود لعالم عقلي مستقل عند ابن خلدون.

صحيح أنه يقسم العالم إلى قسمين: إنساني، وما فوق إنساني. إلا أن الأهم عنده، والذي تقوم عليه نظرية المعرفة عنده أن قدرات العقل تنحصر في القدرة على تعقل كل ما هو مادي فحسب.

أما ما هو فوق المادة فلا قدرة للعقل في الوصول إليه. ويتفرع عن ذلك أن العقل قادر على معرفة أشياء العالم وفق قوانينه الضرورية، ومن ثم لا معنى عنده لأي قدرات مزعومة تتعدى الحواس وقوانين العالم، كالكرامات المزعومة التي تتجاوز النواميس الكونية والسنن الإلهية. وهو بهذا يمثل اتجاهاً واقعيا تماما، لا مكان فيه لأي مثالية، من أي نوع كانت.

العقل يعرف أشياء العالم عن طريق الحواس، متى كانت ذات وجود مادي، فإذا انتزعت عنها المادة، كف العقل أن يتعرف عليها. ومن هنا نعرف سبب هجوم ابن خلدون في مقدمته على الفلسفة، التي أفرد له فصلا سماه (في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها)، وهوجم كثيرا من قبل مثقفين، إما أنهم لم يقرأوا المقدمة، وإما أنهم قرؤوها على طريقة القص واللصق. ذلك أن ابن خلدون يقصد بالفلسفة هنا ما كانت تعرف بـ(الفلسفة الإلهية) التي كانت أس الفلسفة في زمنه، والتي كانت تزعم أن العقل قادر على معرفة ما وراء الحس، إذا استخدم معطياته بشكل صحيح، فجاء ابن خلدون ليقول إن هذا ادعاء باطل لا حقيقة له، فالعقل له قدرات محدودة ومحصورة بعالم الواقع، أو عالم ما تحت القمر، كما هي لغة أرسطو.

يُشبِّه ابن خلدون العقل بالميزان المخصص لوزن المعادن. فإن وضعت به ذهبا أو فضة، مثلا، أعطاك نتيجة يقينية. أما إن وضعت فيه حجارة ثقيلة فلن يعطيك أي نتيجة.

وهكذا العقل، إن وجهته إلى معرفة ما هو حسي مادي، أمدك بنتائج يقينية؛ أما إن أردت منه معرفة ما وراء المادة فلن يعطيك شيئا، لأنها ليست من مهامه. وللوحي عنده مكانة مخصوصة في أنه وحده الذي نستمد منه علم ما وراء الحس، وعلى الأخص، ما يتعلق بالحشر والمعاد والجنة والنار.

وباختصار، فإن ابن خلدون يقول لنا إن العقل موهبة إلهية، لكي نستعمله في شؤون الدنيا والمعاش، وما يتصل بهما من تنظيم المجتمع البشري. أما ما يتصل بالآخرة وشؤونها، فالدين مجاله الوحيد.