عنما كنا نكتب في «الوطن» ومنذ سنوات «أن الأوربيين لا يعتمد عليهم وأنه لولا الدعم الأمريكي -سابقا- لكان الجيش الروسي يتمشى في وسط أوروبا»، وأعدنا هذه الفكرة عدة مرات، أثيرت حفيظة البعض وقتها، وقالوا إنها مبالغة مع وجود النظام الدولي الحالي، والبعض الآخر، اعتبرها من باب لفت نظر القارئ دون واقعية.

وأكثر ما أثار حنقهم -كمثال- في مقال «اخجلوا لم تبرد جثثهم بعد»، عندما وصفنا أوربا (بالاتحاد الأوربي لدول الموز)، بسبب ضعفهم وتشتت رأيهم، وفي الوقت نفسه (النفخة الكذابة) وإعطاء أهمية لأنفسهم، كأنهم قوة عظمى، ومحاضرة الآخرين عن حقوق الإنسان والسيادة. الأوربيون جحدوا الرئيس الأوكراني، وهذا قوله بلسانه، وألمانيا كالعادة معرقلة لكل تحرك أوربي، وأخيرا جاءتها ضغوط قصوى ورضيت بتسهيل تحرك بقية الأوربيين.

وقبل هذا كله مصير ما يحدث في أوكرانيا الآن، توقعه بدقة أستاذنا البروفيسور جون ميرشماير قبل حوالي 7 سنوات وبالتفصيل. وكما هو معلوم، بروفيسور ميرشماير يعتبر في نظر الكثيرين الوريث وحامل الراية الحالي لمدرسة (الواقعية الجديدة) في العلاقات الدولية والسياسة، والتي أرسى قواعدها أستاذنا ومعلمنا الكبير الراحل كينيث ولتز، ومنذ عقود -حتى وهو في قبره- والقواعد والتوقعات التي أرساها معلمنا ولتز تحدث في العالم، بل العالم في سياسته الدولية والعلاقات بين الدول يتبع قواعد (النيوريالزم) أو الواقعية الجديدة. ودون شك قدرة أستاذنا كينيث على تفكيك أسرار العلاقات الدولية استثنائية، لذلك نجحت تحليلاته للعلاقات بين الدول نجاحا باهرا، وقد لا نتفق كليا مع آرائه، وإن كنت شخصيا أميل إلى آراء البروفيسور ميرشماير فيما يخص النيوريالزم الهجومي.

حاول الكثيرون خصوصًا بعض الأوربيين مهاجمة نظرية النيوريالزم، بوضع نظريات غير عملية من برج عاجي، مليئة بالشعارات والنظام الدولي الجديد، وربما لم يحبوا ولم يحبذوا ما يدعون أنه القسوة في تحليل العلاقات الدولية الموجودة في (النيوريالزم)، لكن في الحقيقة هو الواقع الذي يختلف عن الأفكار النظرية العاجية لبعض الكتاب الأوربيين. المحلل الاستراتيجي الحقيقي هو من يتوقع الأحداث والسيناريوهات قبل حدوثها بوقت، أما بعض من يأتون بهم ليحللوا الموقف بعد حدوثه فهم (حكواتية وترتيب كلام)، وهذا الفرق بين العلم السياسي الحقيقي ومحللي الفهلوة الذين نشاهدهم كثيرًا أثناء الأزمة الأوكرانية.

لذلك ومنذ سنوات أطالب بالتعليم والتركيز على مبادئ (الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية)، لكل السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين وطلاب العلوم السياسية في الخليج العربي، لأنه هكذا تدار الأمور في العالم الحقيقي، بل هو الدليل والكاتالوج لكيفية الإبحار في بحور السياسة الدولية.

لست أطالب بتعميم سياسة (النيوريالزم) لأني أنتمي لهذه المدرسة وهذا معروف وكتبته مرارًا وتكرارًا، ولكن ربما لا توجد منطقة في العالم مثل الشرق الأوسط تنطبق عليها (الواقعية الجديدة) كما هي منطقتنا، وأيضا هي النظرية الأكثر دقة لتحليل وتفسير علاقة وسياسة الدول في الشرق الأوسط. في سنوات سابقة، وفي النقاش بين أساتذة العلوم السياسية، كان البعض ينتقد الميزانية الكبيرة للدفاع في المملكة مقارنة بالدخل الوطني، فكنت أرد، الأفضل أن تبقى الميزانية الدفاعية عالية وخصوصا منطقة الشرق الأوسط المضطربة، ونعتمد الواقعية وليس الأمنيات والنظام الدولي الأعرج.

كان هناك فساد كبير في الدفاع إلى أن جاء الأمير محمد بن سلمان وعدل الأمور وأرجعها إلى مسارها الصحيح، وكما نشاهد الآن في قضايا نزاهة.

لكن الواقعية الجديدة تقول، يجب على الدول أن تحمي نفسها بنفسها، ولا تركن للنظام العالمي المتغير. وإذا وجدت القوة الدفاعية والردع استقرت بقية عناصر الدولة من اقتصاد ورفاهية وغيره.

لا توجد فترة سلام طويلة في العالم، بل الحرب هي الثابتة، رغم تقدم الإنسان حدثت خلال القرن العشرين وحده 265 حربًا! بداية من حرب بوير بين عامي 1899-1902، وتبعتها حرب الألف يوم، والحرب الروسية الصينية عام 1900، والحرب اليابانية الروسية عام 1904، إلى حروب البلقان الأولى، ومن ثم حروب الثورة المكسيكية، والحرب العالمية الأولى بين عامي 1914- 1918م والحرب العالمية الثانية إلى أن وصلنا اليوم لحرب أوكرانيا التي تخلت عن أسلحتها النووية من أجل وعود كلامية وكتابية بالأمان والحماية، لا تسمن ولا تغني من جوع !

هذه الأزمة كشفت الدول الغربية على حقيقتها، أولاد الشرق الأوسط الحروب والمآسي عندهم عادي، لو سالت الدماء، لكن كما يقول المراسلون الغربيون أولاد عيونهم زرق وشعرهم أشقر هذا غير مقبول، ولسنا عنصريين ولا نحبذ الحروب، بل نطالب بالسلام في كل أرجاء المعمورة، ولا نتمنى لأي شعب كان أي سوء أو حرب، لكن لماذا هذه العنصرية البغيضة !؟

لا أشجع أي طرف في هذا الصراع، لكن أي إنسان يدافع عن وطنه بشرف ورجولة فإنك تحترمه، عندما حاصرت البحرية الروسية 13 جنديًا أوكرانيًا في جزيرة وطلبوا منهم الاستسلام، ورغم فارق القوى ومعزولين في جزيرة دون إمداد، قام الجنود بالرد على طلب الاستسلام (بمسبة دعونا نترجمها من قبيل اذهب إلى الجحيم)، والجندية تقول لزميلها ارفع صوت جهاز اللاسلكي حتى يسمعوا ردنا !

بعض النظر عن مصير الجنود الـ 13، البعض يقول قتلوا والبعض يقول لا! لكن هكذا تكون روح العسكرية والشرف، وهكذا يكون تصرف الجندي الحقيقي، وأهدي هذا المثال لبعض جنود الشرعية اليمنية، البعض في اليمن سلم مناطق بكبرها مع معداتها دون حتى قتال أو حياء !

مختصر القول في الأزمة الأوكرانية، لا تثق بالدول الكبرى وتعهداتها، ووعود الحماية، ولا تثق بالنظام الدولي، وأنصح وأتمنى وهذا ما نقوله علنا وفي مجالسنا الخاصة أن يعتمد الخليج على نفسه، وأن يفعل سياسة الردع المرتكزة على (النيوريالزم)، لأن التجارب أثبتت أنها الأفضل، والردع أفضل من توازن القوى، لأن الردع يؤدي إلى تجنب الحروب، وأفضل نتيجة للفوز بحرب هو تجنبها.