في علاقاتنا الاجتماعية قد نتفانى لنقدم أعظم هبة منحنا الله إياها، أرواحنا التي لا نملك أغلى منها لأشخاص ربما تكشف الأيام أنهم غير أهل لهذا العطاء، ونظل ندور في دائرة الألم وجلد الذات، وتحيط بنا التساؤلات لماذا لم نُكافأ على ما قدمنا، ولماذا كنا بهذه الدرجة من السذاجة التي جعلتنا نزرع ولا نحصد، ونحسن بلا توقف، وفي النهاية يكون هذا العطاء بلا قيمة، بل وتكون المشكلة الكبرى التي نجمت خلال تلك الرحلة الطويلة أن تتكسر العلاقة مع ذاتنا التي يمكن أن نعبر عنها هنا بالروح.

يؤدي العمل المتواصل وإهمال الذات إلى الإجهاد الذي يعبر عنه في كثير من الدراسات بالاحتراق النفسي الذي ينجم عن الانهماك المتعمد في الخدمة، والرعاية الفائقة، والاهتمام العالي بمن يحتاجون لنا سواءً أكانوا صغارًا أو كبارًا، ويتسبب هذا الإجهاد المتواصل بتناسي الروح والابتعاد عنها، بل وتبلد المشاعر التي تذبل مع الأيام بسبب تكريس كل شيء للمحيطين بنا.

إن إهمال الروح وتركها تدور في دائرة الآخرين يؤدي إلى حالة من الغربة عنها، تزداد تدريجيًا، وفي النهاية تتشكل جدران عالية، وحدود فاصلة بيننا وبين أرواحنا، قد يصعب علينا أن نحطمها في يوم من الأيام.

يؤدي الاحتراق النفسي وفقدان التواصل الروحي إلى العديد من المشكلات التي تؤثر في توازن شخصياتنا واهتماماتها، ومن أهمها ضعف تكوين الروابط الاجتماعية مع الآخرين، وانعدام ممارسة الصداقة والصحبة في كثير من الأحيان، وانحسار مهارات التواصل الحياتية في نطاق ضيق، وعدم الانخراط في البرامج والمناسبات الاجتماعية أو التطوعية، والسبب هو تكريس كل ما نملك، من وقت وجهد ومال من أجل من نحبهم، ونعتذر دومًا بانشغالنا بهم عند دعوتنا للكثير من المناسبات، أو المشاركة في الفعاليات التي توطد علاقاتنا بأرواحنا، وتزيد من انتمائنا لها، وتعيد التوازن لنا، وبالفعل يزداد الاحتراق، وتتفاقم الغربة عن الروح.

وهنا لا بد من التوقف وإدراك أن أرواحنا في شوق إلينا، وتنادينا بصوت خافت حزين «هذي الروح لك تشتاق»، وتحتاج إلى اعتذار عما اعتراها من اهتراء، وأنها هي الأولى بأن نراعيها، ونهتم بمداواة جروحها، وترميم الصدوع التي نشأت أثناء اغترابنا عنها، وانشغالنا الذي نبرره بحبنا، واهتمامنا بقضاء الوقت كله لكي نحب ونبذل ونداري ونعطي من نحبهم، ومن المحتمل ألا نحصد بالقدر الذي أعطيناه.

وهنا يكمن الفرق بين عطائنا لأرواحنا وعطائنا للآخرين، فعطاؤنا لأرواحنا لا يمكن أن يُقابل أبدًا بنكران الجميل، أو الخيانة، لأن الروح كلما أخذت أعطت أكثر، وكلما رويتها أثمرت، وزادت جمالًا، وعطرت لحظاتنا، وأنارت أيامنا، لذا فهي جديرة بالترميم والرعاية، لنتمكن من مواصلة طريقنا، ونحن في حالة تواصل روحي تمكننا من الوقوف من جديد عندما نتعثر، وتجعلنا أكثر قوة في مواجهة الكثير من النكسات الناجمة عن صدود ونكران من لم نكن نظن أن يواجهوا الخير بالشر، والحب بالكره، والرعاية بالإهمال.

والسؤال هنا من منا روحه تناديه وتشتاق إليه؟