كما يبدو، نحن في عالم يمتلئ بالضجيج، وأصوات قرع طبول الحرب.

روسيا التي تُعاني من خنجرٍ أوروبي يُمكن أن يستقر في خاصرتها عبر أوكرانيا لا تعاني من ذلك فحسب، بل تذرف الدموع من تمرد طفلٍ كان ضمن الأسرة السوفييتية، اسمه أوكرانيا. والقارة العجوز ترى أن جرأة الدب الروسي على أوكرانيا تنسف تاريخ ذلك التكتل السياسي الكبير الذي يتشكل من دول تمارس السياسة منذ مئات السنين، وتُجيد فنون الشد والجذب قبل ذلك.

وهذا يفتح باب الاستناد على التاريخ، الذي يجد من خلاله فلاديمير بوتين أن بلاده ذات جذور وقيم تاريخية سابقة لغيرها منذ أكثر من ألف سنة. وواشنطن التي يرى القيصر أن تدخلها في أوكرانيا التي تبتعد عنها آلاف الأميال؛ وهذا يُجسد عامل «القطب الواحد» الذي يُحاول كسره كنمط سياسي اعتاد عليه العالم؛ لم تتوقف عن التهديد والوعيد، على رغم أنه – أي بوتين – لا يسمعه ولا يُعيره أدنى اهتمام، باعتباره لا يتجاوز كونه «صراخ» غير مؤثر، وقاده في ذات الوقت لأن يرى أن المفاوضات المستمرة مع جو بايدن لا تؤدي إلى حلول.


والتنين الصيني مشغولٌ بلُعابه الذي سال وهو ينظر إلى تايوان التي «يشتهي وصلها» على مر السنين، بانتظار اللحظات المناسبة.

والأساطيل الأمريكية في البحار والمحيطات المُطلة على الصين كُثر، لكنها غير مؤثرة في قرارات بكين، التي تجد نفسها نداً لواشنطن، من ناحية القوة، والقوة المضادة، والتأثير، المنفرد لصالح الصين الشعبية باستخدام أوراق الصناعة والاقتصاد.

والملف النووي الإيراني يُشغل الجميع، كلٌ على حسب مستوى اهتمامه. فعلى سبيل المثال هناك الكثير من دول العالم ذات التأثير ترى أن هذا الملف الذي قاد لخطأ التفاوض مع ولاية الفقيه، مقروناً بتقديم تنازلات كبرى من دولٍ هرولت لحوار طهران، ستكون له سلبيات على المنطقة والعالم حال إبرام اتفاق ضعيف مع جمهورية تسلك منهجية الميليشيا لا الدولة.

حتى روسيا التي يتكالب على حمايتها لأمنها القومي جُل دول العالم، لم ترتض مبدأ التفاوض مع النظام الإيراني، وهذا له مبرراته وأسبابه التي يراها سيد الكرملين، والتي أتصور أن أبرزها الخديعة التي تعرضت لها موسكو من خلال انسياق الجمهورية الإيرانية وراء الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، سعياً للحصول على رضى غربي شأنه أن يؤسس لاتفاق تستفيد منه لوحدها، بصرف النظر عن كونه يشكل عامل خطر لدول الجوار.

ومن ضمن المبررات الروسية التي أغضبتها على طهران، أنها قد سجلت موقفاً لصالحها حين تم فرض عقوبات اقتصادية عليها، وكانت تصرف نظرا عن تواجدها العسكري في الساحة السورية، لكن إيران خذلت روسيا، ولهذا يرى ويلحظ المتابع اختلافا وتغييرا في الخطاب الروسي تجاهها.

لكن في مقابل ذلك علينا النظر للسعودية في مُجمل هذا الصراع العالمي الكبير؛ المحفوف بهدير الطائرات الروسية، والدعاية الغربية وليس الأوكرانية، والتفكير بفهم العقل السعودي «المُدبّر»، الذي يعبّر عنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ماذا يعني العقل «المُدبّر»؟.

يعني المنشغل بتطوير الذات والدولة التي يتحمل سياسياً وأخلاقياً ضرورة تنميتها، ونهضتها، وتحديثها، وتطويرها. كيف؟.

بالعودة للغة المشاريع؛ كمشروع العلا، والدرعية «الكنز التاريخي السعودي»؛ وجدة التاريخية، ومشروع نيوم، وذا لاين، والقدية، وهي في مُجملها مشاريع سعودية خالصة غير تقليدية، أو مستنسخة من تجارب الآخرين. وقبل هذا كله؛ فكرة المُعتقد السعودي الخالص، الذي يقوم على المسؤولية الأبدية النابعة من ضرورة المحافظة على المقدسات التي تحتضنها الدولة.

وبالمناسبة هذا أحد أشكال تفرّد المملكة في تحمل المسؤولية الدينية أو العقدية، لأمر ليس خاصاً تعتبره إرثاً تاريخياً أو مصدر دخل قومي للدولة أو مجالاً لاستعراض الممتلكات، إنما من باب الأمانة التي تُشكّل الضمير السعودي، من منطلق أنه يتعلق بأكثر من مليار إنسان حول العالم. قد يرى الكثير أن العنصر الأساسي في بناء هذا المقال مُستقى من الحديث الذي أدلى به ولي العهد لمجلة أتلانتيك الأمريكية الأسبوع المنصرم.

وهذا صحيح. لكن إن لم يكُن هذا الحوار درساً على المستوى الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والدولي، وحتى على صعيد الحضور الذهني، فإن هناك مشكلة في ذهن القارئ أو المتلقي يجب حلها وعدم السكوت عنها.

والدروس كُثر في ذلك اللقاء، ويكفي رسالة الديموقراطية السعودية الخاصة التي أراد الأمير محمد أن يعرفها الجميع، والتي تمحورت حول اختياره من قبل أعضاء هيئة البيعة الـ34 المُتفق عليهم من الأسرة الحاكمة، وتمخضت عن قبوله كقائد مستقبلي للدولة، أبرز مهامه الحفاظ عليها، بشكلها السياسي الفريد من نوعه في العالم، وهذا يُعطي إشارات كبرى على أن الديموقراطيات الكبرى في العالم أثبتت فشلها، بينما نجحت ديمقراطية 34 فرداً في فرض الاستقرار السياسي للدولة، على أساس أخلاقي ارتضته الأسرة المالكة؛ على رأسها الملك والد الجميع – رعاه الله – والمجتمع الذي عولت وتُعول عليه السياسة السعودية في مختلف الموازين.

إن حالة الاستقرار التي تعيشها المملكة والتي عبّر عنها ولي العهد؛ ليست مجالاً لممارسة المجاملات والنفاق السياسي للآخر، إنما هي نتاج نموذج عمره مئات السنين، يُراعي عنصر الدين؛ والأمانة؛ ووحدة النسيج الاجتماعي الذي جاء منه ابن سعود، ونحن، أنا وأنت يا صديقي.

عند هذا الحد سأتوقف. ومن الوطن. نهاركم وطن. تعظيم سلام.