نظر كل من عالمي الاجتماع العربي ابن خلدون (ت 1406)، والفيلسوف الألماني المعروف كانط، أو كانت (ت 1804) إلى المعرفة على أنها تلك التي تمر بالتجربة، وتلتقطها الحواس. فهذه هي المعرفة الممكنة، أما ما يتخطى العالم المحسوس، ويتجرد عن المادة، فليس للعقل قدرة على معرفته. ذلك، على اختلاف بينهما بالنسبة إلى تسلسل التجريد والميتافيزيقا كلية.

لن نستعرض في هذا المقال منهجية وفلسفة كل منهما فيما يتصل بنظرية المعرفة، بل سنتحدث عن معرفة ما وراء الحس، هل اعتبراها معرفة، أم اعتقادا؟ بمعنى: هل العلم بكل ما يتعدى نطاق العالم المحسوس، أو ما يطلق عليه «الماورائيات»، يمكن أن تصبح معرفة، أم أنها تنتمي إلى فضاء الاعتقاد القائم على التسليم؟

كلا الفيلسوفين حكما بأن مجال العقل محصور بالواقع المعيش، أو بالعالم المادي، أو بـ«الفيزيقا»، كما هو المصطلح الإغريقي. وما إن يحاول، أعني العقل، تخطي حدوده المادية إلى الماورائيات، كما مَثّل لها كل منهما بـ«النفس، والحرية، والإله»، وزاد ابن خلدون «البعث، الملائكة، الروح»، فسيتوه حتما، ويصبح غريبًا حتى على نفسه.

كانط لم يكن كذلك إلا عندما أيقظه الفيلسوف الإنجليزي (ديفيد هيوم، ت 1776)، من سباته الدوغمائي، كما قال. ويقصد بذلك أنه، أي كانط، كان يعتقد بقدرة العقل غير المحدودة على تحصيل المعرفة عن العالم المحسوس وغير المحسوس. بمعنى أنه يستطيع أن يُكَوِّنَ، عن طريق التجريد المتعالي، معرفة يقينية عما غاب عن الحواس، أو«الأشياء بذاتها»، كما هي عبارته.

لكنه ما إن قرأ ما كتبه (هيوم) عما سماها العادة في ملاحظة ما كنا ننظر إليه على أنه سبب ومسبَّب، وأنها ليست بالضرورة علاقة سببية، حتى صدح بعبارته المشهورة «لقد أيقظني هيوم من سباتي الدوغمائي».

السؤال: طالما اتفق الفيلسوفان على حصر قدرات العقل في العالم المحسوس فقط، فهل هما يعدان ما وراءه معرفة، أم اعتقادا؟ وإذا كان يعدانه اعتقادا، فهل هما متفقان في شكل هذا الاعتقاد؟

الحقيقة أنهما يتفقان ويختلفان في الوقت نفسه.

يتفقان في أن كل ما وراء العالم المحسوس فإنما ينتمي إلى فضاء الاعتقاد، لا إلى فضاء المعرفة. لكنهما يختلفان في توصيف معنى هذا الاعتقاد.

ابن خلدون ينظر إلى ما وراء العالم المادي على أنه محكوم بمقتضيات الدين، أي بما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية، بصفتهما حاكميْن على سلوك الإنسان وأخلاقه. بينما حكم (كانط) على الاعتقاد على أنه «الدين في حدود مجرد العقل». بمعنى أن الاعتقاد ينتمي إلى فضاء العقل العملي بما يستبطنه الإنسان من أوامر أخلاقية داخلية قبْلية ذاتية، تقوم على تلوين الدين بقالب أخلاقي قبْلي، وملئه بمضمون عقلاني كلي عابر للزمان والمكان، مضمون ذي مبادئ أخلاقية متجاوزة البعد التاريخي، المتمثل في العاطفة والوجدان اللذين خرجا من رحم التاريخ. وهي مبادئ ليست كلية ولا قبلية، بل هي متناقضة ومتضاربة حسب اختلاف وتضارب الثقافات، والأيديولوجيات، والأنساق التي أنتجتها. ولا يبقى بعد ذلك لحماية السلم البشري إلا البحث عن مبادئ عقلانية مركوزة في العقل البشري بصفته تلك، بعيدًا عن تلوينات التاريخ والجغرافيا.

هذه المبادئ التي نَظَّرَ لها كانط تقوم على أخلاق غير نفعية. بمعنى أنها أخلاق لذاتها، لا ترتجي منفعة أو غنما.

وسيجد المرء هذه المبادئ الأخلاقية القبلية المركوزة في العقل البشري خلوَّا من تأثيرات الزمان والمكان عندما يطرح على نفسه السؤال التالي، عند أي تصرف أو سلوك ينوي القيام به:

«هل أرغب في أن يكون سلوكي هذا، الذي أنوي القيام به، قانونا كليا، يتعامل به البشر كلهم؟»

إذا كنت لا ترغب في أن يكون سلوكك الذي تنوي القيام به قانونا عاما للسلوك البشري، فتوقف فورًا عن فعله، لأن أي تشريع أخلاقي يفتقد للشمولية والكلية فهو لا أخلاقي.