سُئلت الكاتبة السعودية، رجاء عالم، في مانشستر ببريطانيا عن الفرق بين الكاتب العربي والغربي فأجابت بأن الكاتب العربي يفكر كيف سيستقبل جده وجدته وأمه وأبوه ومجتمعه ما سيكتب، فلا يكتب شيئا يعبر عنه بل يعبر عنهم. إن إجابة عالم التي جاءت ضمن حلقة نقاش نظمتها جائزة البوكر العالمية العام الماضي في مانشستر، تعكس أن الكثير من الكتاب العرب يكتبون لكن لا يكتبون، يفكرون لكن لا يفكرون.
إن من أسباب تراجع مجتمعاتنا أننا نعيد إنتاج ما نكتبه. نعيد إنتاج التخلف. الآراء التي نتصفحها في معظم الصحف متشابهة. المنتج واحد، الفرق فقط في طريقة التغليف!
أصبحنا كالحجارة تتحرك دون أن تُحرك. حين يعطل الإنسان عقله ينقاد بسهولة.. التفكير يمنحنا استقلالية. يقول غوستاف لوبون إن الحشد الكبير يجرف الفرد غير المستقل معه مثلما يجرف السيل الحجارة.
نتشابه في الاهتمامات والهوايات وحتى الأمنيات. عندما عشقت مجموعة صغيرة التصوير الفوتوغرافي أصبح المجتمع كله يحمل على ظهره كاميرا ويشتري عدسات ضخمة. افتتح أحدهم (كوفي شوب) فانتشرت (الكوفيهات) في مدننا كالنار في الهشيم. دخلت مجموعة سوق الأسهم فأصبح كل المجتمع من المساهمين.
عدم وجود تنوع وتباين في الآراء والاهتمامات يصنع مجتمعا مملا ورتيبا لا يملك ما يدهش ويثير ويلهم ويحفز.
نفكر ألف مرة قبل أن نطرح رأيا صريحا ومختلفا وإذا طرحناه طرحناه باسم مستعار. كثير من الأسماء الصريحة أصبحت لا تنتج إلا الكذب. "يلا نكذب، بدلا من يلا نكتب" هي العبارة التي ينبغي أن يرددها العرب قبل أن يطرحوا رأيا أو تعليقا.
تضايقنا الكثير من الأشياء، لكن لم نحاول مرة واحدة تسجيل اعتراض علني تجاهها، بل ونساهم في تعزيزها بالمشاركة فيها والصمت إزاءها. الظواهر السلبية ستتفاقم وتتعاظم إذا قابلناها بسلبية. الصراحة هي الحل.
في "تويتر" و"الفيس بوك" التعليقات المدهشة والشفيفة أبطالها أسماء مستعارة. هذه الأسماء المستعارة تنفجر سخرية وتهكما وصدقا في معرفاتها الحركية انتقاما من المجتمع، الذي حرمها التعبير دون حسابات وتأويلات بأسمائها الصريحة.
أعرف زملاء يملكون روحا محلقة وأفكارا متألقة في مجالسهم الخاصة، لكنهم في طرحهم العام يكتبون بجمود وحدود خشية محاكمة نواياهم؛ مما حرمنا من متعة الإبحار في فكرهم والتنزه في حدائق معرفتهم. اقتربت من شخصيات تملك مواهب أخاذة، لكنهم أهملوها، لأن مجتمعاتنا لديها مواصفات محددة للنجاح لا تتسع لإبداعهم.
العمل الميكانيكي الخالي من العفوية والبساطة والطيش لا يثير ولا ينير، وإنما يحزن ويحبط.
لم يصنع الغرب هذا النجاح الكبير في كافة المجالات والتخصصات إلا لأن شعوبه عبرت عن ذواتها بشفافية دون حسابات وخدع وكذب. من يصدق مع نفسه سيصادقه النجاح.
ركزوا على شغفهم دون حدود وقيود فمنحهم المجد والتفوق والصدارة. لم يشغلهم المجتمع فانشغل المجتمع بهم وبإنجازاتهم. تصفحوا مبدعي العالم من حولنا وستجدون بساطتهم وتلقائيتهم مقابل تكلفنا وتصنعنا وتملقنا. ثراء المجتمعات بتعدد مواردها وتنوعها وتصالحها مع اختلاف أبنائها.
لن ننمو ونصعد ونسمو إلا عندما نعمل عقولنا ونقدم منتجاتنا النابعة من شغاف قلوبنا.
علينا أن نعزز في أبنائنا والناشئة روح المبادرة المبنية على قناعة شخصية وإرادة داخلية حقيقية. المبادرات المستقلة هي التي تصنع الفرق. تدوير الأفكار وإعادة إنتاجها يصنع الرتابة.
اليوم، مجتمعاتنا في أمس الحاجة إلى مبادرات تحرر العقول بعد عقود طويلة من الممارسات الأبوية التي حدت من صعود مجتمعاتنا ونهضتها.
يبدأ تغيير المجتمع منا. فتغييره بيدنا لا بيد غيرنا. فـ"يلا نكتب" ونأمل ونعمل، هرمنا من الكذب!