صوت يشذ عن الأصوات المألوفة، لا لأنه أقوى، بل لأنه مختلف وبعيد. صوت يسرق المكان ويهـرول. صوت يقص الفضاء ويحدث تجويفًا في الضوء. هيا بنا..

لم نعبر طريق الروشـة منـذ أيام. شارع عريض مهجور يتوسع من غياب الخطى، كأنه ملكية خاصة للبحر. بنايات تدخـن.

نار تهبط من أعلى إلى أسفل. حريق مقلوب. نوافذ تشيخ وتتساقط على مهـل. وتصل إلينا استغاثات الطوابق العليا واضحة جارحة.


ناس تحاصرهم النار والانهيارات التدريجية الخارجة من هول الصدمة الأولى. رجال الإسعاف المدني كانـوا هناك، يحاولون إنقاذ اللحم البشري المعجون بالحـديد والأسمنت والزجاج، منها. لا أستطيع أن أشيح بوجهـي عن مشهـد المـكان المجروح.

للـدم على الأرض وعلـى الجـدران جاذبية الوحشية. لا أستطيع أن أنصرف ولا أستطيع أن أخمد إحساس العجز.

الزحام شديد. يدعونـا رجـال الدفاع المدني إلى الانصراف لأننـا نعـرقـل مهمتهـم، ولأن الطائرات ستعود لتقصف هذا الحشد الشهي.

بلل وجهي ماء ساخن يبعثه احتقان الغيظ. شدني صاحبي من ذراعي: هيا بنا، هيا بنا. أغـاروا من جديد. من جديد أغـاروا.

ما هذا اليوم؟ هل هو أطول يوم في التاريخ؟ ن

ظرت إلى البناية المقابلة، نظرت إلى مكتبي الصغير نظرة وداع أخير.

موجة من بحر، كنت أتابعهـا من هذه الشرفة، وهي تنكسر على صخرة الروشة الشهيرة بانتحار العشاق... موجة من بحر تحمل بعض الرسائل الأخيرة، وتعود إلى الشمال الغربي الأزرق، والجنوب الغربي اللازوردي، ترجع إلى شواطئهـا وقـد طرزت انكساراتهـا بالقطـن الأبيض.

موجة من بحر، أعرفها، ألاحقهـا بالشجـن، وأراها وهي تتعب قبل بلوغ حيفا، أو الأندلس. تتعب فترتـاح على شواطئ جزيرة قبرص.

موجة من بحر، لن تكون أنا. وأنا، لن أكون موجة من بحر.

كم أحببت هذا المكان، المهدد بالتلاشي منذ البداية، ماذا تُهديك؟ نباتات ووردًا. زهورًا ونباتات. حولته إلى ما يشبه العش.

أردت له أن يكون نصًا من نصوص المجلـة. حروف بنية مطبوعة على ورق أصفر ويطل على بحر. أردت له أن يكون مزهرية ثابتة على صهوة جواد جامح. أردت له شبهًا بالقصيدة.

ولكن لا نكاد نعلق لوحة حتى تنفجر سيارة مفخخة تحت، وتطيح بكل ترتيب. وما كدت أسند رأسي على مرفق يدي اليسرى، في انتظار فنجـان القهوة، حتى وجدت نفسي خارج المكتب.

لقـد رفعني دوي الانفجار، كما أنا بقلم الحبر والسيجارة، ووضعني سالمًا أمام المصعد.

وجدت وردة على قميصي. وبعـد دقيقة حاولت العودة إلى المكتب الذي اختفى بابه وتحول إلى ساحة من زجاج مكسور وورق متطاير، فتصدى لي الانفجار الثاني ليبقينـي متجمـدًا قرب المصعـد، ردّ الحارس الفتي على الانفجار بطلقات من مسدسه.

ماذا تفعل؟ قلت.

قال: أطلق النار.

قلت علام تطلق النار وفي أي اتجاه ؟

لعل أحدًا لم يسأله هذا السؤال من قبل، لذلك استهجنـه، فهـكذا يحـدث دائمًا.

رد الفعـل الفوري، التلقائي، وربما الغريزي، على أي حدث أو إحساس عنيف أو خبر أو إصابة كروية هو: إطلاق النار.

مجزرة جديدة على الروشة: عشرون قتيلاً آخـر من هذه الحمى الجديدة: حمى السيارات المفخخة التي أتقـن «الموساد» صناعتها مع عملائه المحليين.

لقد مهدت هذه السيارة لعملية الغزو، مهدت الأرض النفسية لتحويل هذا الحصار إلى حادث طبيعي. أحصنة طروادة معاصـرة تصهل في الوعي: لا أمن ولا أمان في بيروت الغربية.

وكل سيارة واقفة على رصيف هي وعد بالموت.. فليدخل البرابرة !

1982*

* شاعر وكاتب فلسطيني «1941 - 2008».