نحن في «مقدمة ابن خلدون»، أمام مفهومين نقيضين للتاريخ: مفهوم يقـف عند ما هو من التاريخ ظاهره، ومفهوم يخترق الظاهر إلى الباطن في بحث عن حقيقة التاريخ، ليجعل منهـا مـوضـوعـًا لعلم. المفهـوم الأول ليس بعلمي، ولا يسمح بتكوين التاريخ في علم. وهو الذي كان سائدًا في «تاريخ» المؤرخين السابقين على ابن خلدون.

إنه مفهوم تجريبي، من حيث إن الواقع التاريخي فيه يتماثل مع ظاهره. وظاهره أحداث الماضي تتتابع بلا رابط أو مبدأ يفسرها.

فإذا اتخذ التاريخ هذه الأحداث موضوعًا له، كان سردًا لها ينقل منها الطريف في هدف التسلية أو المتعة، أو في هدف أخلاقي.

كأن التاريخ باب من أبواب الحكمة، غايته أن يستخلص من أحداث الماضي درسًا للحاضر، به يهتدي صاحب الأمر إلى أمره.

ليس للتأريخ، هنا، أن ينتج معرفة، أو أن يفسر الأحداث بالأسباب. له أن يعظ، وللحاضر أن يتعظ. ما دامت غايته كذلك، فطبيعي أن تنمو الأقوال في عملية السرد التاريخي، بل إن هذا لمستحب إن كان فيه تحقيق للغاية.

وطبيعي أيضًا أن يجانب الخطأ، في تلك العملية، الصواب، وألا يكون للمؤرخ قدرة على التمييز بينها، في غياب تام لكل ترابط داخلي بين الأحداث، وقد تسطحت.

نوجز فنقول: إن المفهوم الإخباري، أو الحدثي، للتـاريـخ مفهـوم تجريبي يجد أساسـه النظـري الضمني في أن الواقع ينحصر في ظـاهـره وظاهره ما يبدو للعين في التجربة المباشرة، أو ما هو مرئي بها.

لذا كان الخطأ الإخبار (بكسر الهمزة) نقلًا للأخبار (بفتح الهمزة) عن الذي بدت له مرئية، فكان أول من رآها. وكان الإخبار بالتالي، نقلًا عن نقـل عـن نقـل إلخ...، وصولًا إلى المصدر الأول الذي هو العين الأولى. وسلسلـة هـذا النقـل لا تتضمـن ضرورة التحقق من صحة المنقول، ولا تمتلك القدرة على التمييز بينه والصواب، ولا تمتلك أدوات هذا التمييز. أما المفهوم الآخر، وهو الخلدوني، فيقوم على نقض المفهوم التجريبي نقضًا جذريًا.

ذلك أن التاريخ عند ابن خلدون ليس سردًا للأخبار، لأن الواقع التاريخي ليس واقعًا حدثيًا. إنه، في الظاهر، حدثي.

والعلم يقضي بنقض هذا الظاهر للوصول إلى البـاطـن الذي هو هو الواقع. هو عملية استخراج للواقع من ظاهر يحجبه. ولا بد في هذه العملية من إنتاج الأدوات النظرية الضرورية لها، والتي هي منظومة المفاهيم العلمية. هذا ما سيقـوم بـه ابـن خلدون في «مقـدمتـه».

ثمة ارتبـاط ضروري، إذن، بين تحديد الواقع التاريخي وتحديد العلم التاريخي، بمعنى أن بنية هذا الواقع، الذي هو موضوع معرفة، هي التي تحدد شكل مقاربته.

إنها قضية معرفية أساسية لها علاقة بتحديد المفهوم العلمي للتاريخ. فالخبر -من حيث هو مادة المعرفـة التـاريخيـة- يسمـح بالسرد، بل يفرضه، فتستحيل به الممارسة التـاريخيـة إخبـارًا هـو نقل للأحداث يتتبع تتابعها دون تفسير. أما الواقع فهـو، مادة للمعرفة التاريخية، لا يسمح بالسرد لأنه، في بنيته المعقدة، ليس حدثًا، بل علاقة، أو مجموعة مترابطة من العلاقات هي التي، في تحركها، تولد الأحداث. ففي الممارسة التاريخية العلمية، لا بد إذن من الذهـاب في الأحداث إلى أصولها، أو أسبابها التي هي هي تلك العلاقات بالذات.

معنى هذا أن المؤرخ لا يلتقط موضوعه بعين تجريبية، أو يجده جاهزًا في حقل التجربة المباشرة، لأن موضوعه ليس الحدث، بل هو ذلك الواقع الذي يحمل الحدث ويجعله ممكنًا، قابلًا للفهم، أي للتفسير، أو للتعليل.

المؤرخ هو الذي يبني موضوع علمه في عملية فكرية يذهب فيها من الحدث إلى الواقع. والواقع هذا هو الذي، في ظاهره الحدثي، يختفي عن العين التجريبية، لا تستكشفه إلا عين مفهومية تنتجه كموضوع علم. الواقع التاريخي الذي يشتغل عليه المؤرخ ويعالجه في ممارسته العلمية ليس الحدث في صيرورته المعرفية خبرًا، بل هو ـ إن جاز التعبير ـ هذا الكل من الأحداث الاجتماعية التي تترابط في واقعة تاريخية تظهر في شكل حدث: كنكبة البرامكة مثلًا، أو نشأة الدولة، أو ثورة الزنج إلخ...

لا بد، إذن، من إخضاع هذا الحدث، في الممارسة التاريخية، لمعالجة علمية تعيده إلى وضعه الفعلي في شبكة العلاقات التي يترابط فيها مع غيره من الأحداث في واقعة تاريخية. بهذه المعالجة، يكتسب الحدث وجوده الواقعي الذي يمكنه من أن يكون موضوعًا لمعرفة هي، في الحقيقة، معرفة هذا الواقع الذي يحركه ويحدده.

فالممارسة التـاريخيـة هـي، في طـابعهـا العلمي، استكشاف هذا الواقع الذي يحمل الأحـداث، لأنـه قـاعـدتها المادية، أي التربة الفعلية التي فيها تنمو. في تعبير آخر، إن المعالجة التاريخية للحدث لا تكتسب طابعها العلمي إلا برد الحدث إلى تربته التي هي واقعه الفعلي.

ويصير التاريخ علمًا إذ يصير بحثًا، أو نظرًا في هذا الواقع وفي كيفياته، أي في أشكال وجوده التاريخي، وبالتالي، في الحركة التي تحمله إلى ما هو فيه من أشكال، أو إلى ما يصير إليه من أشكال. فالتاريخ، من حيث هو علم بكيفيات الوقائع، هو علم هذه الحركة، أي علم صيرورة الواقع في كيفياته. والقول بعلمية المعرفة التاريخية، من حيث هي معرفة بكيفيات الوقائع -لا وتتابعها- يستلزم بالضرورة البحث في أسباب هذه الكيفيات، أي في معرفة الأسباب التي تتحكم بالحركة التاريخية للواقع.

يقول ابن خلدون: إن علم التاريخ «نظر وتحقيق». في هذا القول، إذن، رفض لأن يكون التأريخ سردًا أو نقلًا إخباريًا، وفيه، بالمقابل، إظهار لضرورة البناء النظري في عملية البناء العلمي للتاريخ. (نقصد بالبناء النظري هنا عملية إنتاج المفاهيم النظرية التي بها تتم عملية إنتاج المعرفة).

1984*

* باحث وكاتب لبناني «1936-1987»