هنا موجز لأحداث ماضية منذ قرنين ونصف، كنوع من المراجعة للتاريخ بين مكر هيجل ومهزلة ماركس في قوله: «إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة، وما نراه الآن هو المهزلة»، ولعل في هذا الموجز شفاء للعقول «الشعبوية» المصطفة مع هذا أو ذاك تعلقاً بالشعارات الغربية أو الشرقية، وأبدأ بعام 1722م عندما «تنهار فارس الصفوية.....ــــ وبعدها بعقودــــ ينتهي زمن المتاعب بصعود القاجار إلى السلطة، وهم جماعة قبلية إيرانية ذات أصل تركي ومعروفة منذ القرن الحادي عشر، وتتخذ السلالة الحاكمة من طهران عاصمة لها في عام 1786م، فتستعيد مظهر نظام في بلد دمرته عدة عقود من الحرب، ولا بد أن عدد سكانه لا يزيد على خمسة ملايين، والسلالة الحاكمة مضطرة إلى التفاوض على تسويات سياسية مع رجال الدين الشيعة الذين خرجوا من أعمال عنف الحقبة السابقة معانين أشد المعاناة....

ويستند أسلوب حكم القاجار على اختيار أفراد من قبيلتهم لتولي المناصب المهمة في الدولة...».

ثم نتقدم في التاريخ أكثر لنشاهد موقف بريطانيا العظمى خلال أعوام الثورة الفرنسية وتوسعها وخصوصاً عام 1798 إذ تتدخل بريطانيا باسم تحالف الديانات ضد الإلحاد (لمحاربة الفرنسيين في البحر المتوسط وفي البحر الأحمر، وقد دعموا دخول الدولة العثمانية الحرب كما تمكنوا من تشكيل ائتلاف ثان مع النمسا وروسيا، وعلى مدار ثلاثة أعوام يقدمون مساعدة عسكرية للعثمانيين ويشاركون في عملياتهم العسكرية ضد الغزاة، ويزود التحالف نفسه ببرنامج دفاع عن الديانات الموحاة ضد إلحاد الثورة الفرنسية، وهكذا ففي عام 1799م ينزل أسطول إنجليزي بروتستانتي إلى إيطاليا الجنوبية قوة من الجنود الروس الأرثوذكس والعثمانيين المسلمين لتقديم دعم لانتفاضة شعبية يقودها كاردينال كاثوليكي...

وفي الهند يمد البريطانيون سيطرتهم باسم النضال ضد انتشار الثورة اليعقوبية «الملحدة»، بل سيذهبون إلى أفغانستان ضمن هذا الهدف).

ولنتقدم قافزين في التاريخ أكثر لنقارن مشهد بريطانيا عام 1839م إلى عام 1841 في أفغانستان مع مشهد أمريكا في أفغانستان، إذ «يقرر البريطانيون تنصيب ملك خاضع لإرادتهم في كابول، وتلك بداية الحرب الهندية- الأفغانية الأولى، فالجيش الأنجلوهندي يتغلغل في أفغانستان في أعظم فوضى في مستهل عام 1839م»، وهنا نستذكر التعاون «الباكستاني- الأمريكي» في التغلغل داخل أفغانستان، وفي الأخير «مدينة قندهار تستسلم من دون مقاومة في 7 أغسطس 1839م ويرتقي مرشح البريطانيين عرش أفغانستان» كأنما يقصدون في زمننا هذا «حامد كرزاي عام 2001م»، لنواصل مهزلة التاريخ عندما يتكرر «في لندن يهنئون أنفسهم على أنهم أثبتوا أن بريطانيا العظمى هي سيدة آسيا، ومن جهة أخرى يجري سحب جزء من القوات المرابطة في أفغانستان لكي يشارك في حرب الأفيون الأولى ضد الصين، وسرعان ما ينفر الزعماء القبليون والسكان الأفغان من البريطانيين، بينما يندد رجال الدين بحكم الكفار، وقد نشبت الانتفاضات الأولى في الأرياف في مايو 1840م...... وتصبح تكلفة الاحتلال جد باهظة....

وفي نوفمبر 1841م تنتفض كابول، وفي منتصف ديسمبر يتفاوض البريطانيون على جلائهم، لكن الاتفاقات لا يجري احترامها من جانب أي من الطرفين ويبدأ الانسحاب في 6 يناير 1842، وهو يدور بشكل فوضوي..... والمذلة البريطانية رهيبة» طبعاً انتقم البريطانيون بتدابير انتقامية ثم يغادرون المدينة مع إعادة دوست محمد إلى عرشه.

وأخيراً أنقل هنا نص مذكرة عام 1844م بين روسيا القيصرية وبريطانيا العظمى، وما يهم القارئ للمذكرة هو إدراك القوى العظمى آنذاك للعبة التوازنات التي قد تلعبها الدولة العثمانية، ولهذا نصت المذكرة على أن «الباب العالي يميل ميلاً ثابتاً إلى التحرر من الالتزامات التي تفرضها عليه المعاهدات التي عقدها مع الدول الأخرى، وهو يأمل في فعل ذلك من دون أن يلقى جزاء فعله، لأنه يراهن على التحاسدات المتبادلة بين الحكومات، فهو يعتقد أنه إذا تنصل من التزاماته حيال إحداها، فسوف تنحاز الحكومات الأخرى إلى صفه في النزاع وتجعله في مأمن من أي مسؤولية، ومن الجوهري عدم تثبيت هذا الوهم لدى الباب العالي، ففي كل مرة يتنصل فيها من التزاماته حيال واحدة من الدول العظمى، من مصلحة كل الدول الأخرى إشعار بخطئه وحثه بشكل جدي على إنصاف الحكومة التي تطلب تعويضاً عادلاً، وما إن يرى الباب العالي أنه لا يحظى بمساندة الحكومات الأخرى، فسوف يرضخ، من دون أن تنجم عن ذلك حرب...».

وفي ختام المذكرة الصادرة عام 1844م كانت هذه العبارة المخيفة لي كقارئ للتاريخ «على أي حال، ليس بالإمكان أن يغيب عن النظر إلى أي مدى تتضمن هذه الإمبراطورية عناصر انحلال، وبوسع ظروف غير متوقعة أن تعجل بسقوطها، من دون أن يكون بإمكان الحكومات الصديقة درء هذا السقوط»، أي أن الدول العظمى كانت تدرك ضعف الدولة العثمانية منذ عام 1844م أي قبل سقوطها بأكثر من سبعين عاماً، وعليكم تخيل بقية مذكرة التفاهم التي احتاطت لاحتمال السقوط بقولها: «إذا ما توقعنا أنها لا مفر من أن تسقط، فيجب التشاور أولاً بشأن ما يتعلق بإقامة نظام جديد للأشياء ليحل محل النظام القائم اليوم..... وإنه لأجل تأمين بلوغ هذا الهدف الذي يشكل مصلحة مشتركة سوف يتعين تكريس التفاهم المسبق الذي ستقيمه روسيا وإنجلترا في ما بينهما، إذا ما اقتضى الأمر ذلك، على نحو ما اتفق الإمبراطور على ذلك مع وزراء صاحبة الجلالة البريطانية خلال إقامته في إنجلترا»، ثم يعلق المؤرخ هنري لورنس على ذلك بقوله: «المشكلة هي أن الأوتوقراطي الروسي عاجز عن فهم أسلوب عمل النظام البرلماني البريطاني، ويعتبر كالتزامات حازمة ما ليس بالنسبة لمحاوريه غير مجرد تبادل لوجهات نظر، وبوصفه رجل بلاط فإنه يراهن كثيراً على علاقات الصداقة الشخصية ولا يأخذ في اعتباره منطق سياسات المصلحة التي تنتهجها الدول".

ونضيف كخاتمة لهذه النقولات التي اختزلت فيها مقاربات لما يمر به العالم منذ ما يزيد على نصف قرن وحتى الآن من «مهزلة» علماً أن «مكر التاريخ» وفق المنهج الهيغلي، أخرج الثورة البلشفية 1917 التي جاءت على مشارف نهاية الحرب العالمية الأولى 1914/ 1918 وكان من نتائج هذه الحرب «نهاية الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية الروسية، والدولة العثمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، وتشكيل دول جديدة في أوروبا والشرق الأوسط وإنشاء عصبة الأمم».

ثم تأتي الحرب العالمية الثانية بعدها، لتقدم قربان التحولات بما يزيد على ستين مليون قتيلا، مع تراجع دور أوروبا في العالم، فلم تعد فرنسا وبريطانيا تهيمنان على العالم بل برز قطبان جديدان هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، أما بقية الأحداث بعد ذلك فنحن قريبو عهد بمن عاشها، وقد عشنا بعضها وها نحن نشهد جديدها.