قامت إحدى الجهات بافتتاح فرع لها، احتوى على رئيس مجلس إدارة و25 عضوا ومديرا عاما ومديرا تنفيذيا والموظفين، على مبدأ «قال صفوا صفين قال حنا اثنين»، بل فعليا العاملون لا يشكلون هناك ربع عدد المديرين والرؤساء، يذكرني هذا بمقال كتب في هذه الزاوية بعنوان «سكرتير مدير مكتب معالي مدير الجامعة»، والمشكلة التي تناولها ذلك المقال ما زالت متغلغلة لدينا، وهي حب مسمى مدير أو مشرف أو مسؤول حتى ولو كانت ذات دخل أو إنتاجية أقل من الموظف العادي. إذ كنا يوما في مقابلات وظيفية على وظائف كاشير ومشرف كاشير، وكان مجموع الدخل الشهري للكاشير أعلى بحكم أن مشرف الكاشير مسحوب من مرتبه بدل «عجز الصندوق»، وعمله أشق ومع ذلك كان الطابور على وظيفة مشرف أعلى، فقط لأنها تحتوي على كلمة مشرف.

السبب بسيط وقد يتلخص في هذا المثال، إذ يقول أحد المديرين السعوديين في إحدى كبريات الشركات لدينا، افتتحت فرعا لها في طوكيو وتكلف بإدارته، وكان بقية العاملين معه من اليابانيين، وبعد انتهاء الربع السنوي الأول أحب أن يكرم زملاءه في قسم التسويق على تحقيقهم المستهدفات وتحفيزا لهم لبذل المزيد، فبادر بطلب دروع وشهادات شكر طبع عليها اسم مشرف ذلك القسم، واستدعاه وحيدا وسلمه المحفزات التي «يطامر» لها بعض المشرفين لدينا ليفاخر بها، ولكن المشرف الياباني تبسم لصاحبنا وشكره وانصرف بأدب، تاركا الدروع والشهادات في مكتب المدير ولم يستلمها.

وبعد سؤال ذلك المدير لأحد العرب القدامى في اليابان عن سبب ذلك التصرف، قال هنا ليست لديهم ثقافة العمل الفردي، فالمشرف والقائد والمدير هنا ما هو إلا عمل تكميلي للفريق، لذا فالأساس هو الموظف، وبتكريمك للمشرف وحيده، كأنها محاباة له على حساب بقية الفريق، وكأنك اخترت موظفا عشوائيا وكرمته، هنا ليس مثل ما لدينا نحن العرب من ثقافة أن الإنجاز يجيّر للمدير أو المشرف أو القائد، هنا التكريم إما للفريق كاملا وإلا فلا.

السبب أن اليابان ومنذ نعومة أظفار الطفل وهو يتعلم كيف ينظف فصله في المدرسة، وكيف يخصص جزءا من وقته لنظافة مدينته و... و... الخ، فحينما يشارك الطفل بأعماله بقية المجتمع يبدأ بإحساس أنه جزء من فريق نجاحه وفشله مرتبط بهم، وينمو هذا الشعور حتى يصبح طبيعة، فتقل لديه «الأنانية» وتزداد لديه أهمية العمل الجماعي، وليس كما لدينا من ثقافة أن رمي المخلفات من السيارة هو دليل أنك أهم من عامل النظافة وكأنه قد ولدته أمه فقط ليحمل مخلفاتك، وبالتالي فحينما ترسخ هذه الثقافة لديك، بأنك لست جزءا من أي فريق، ستجد نفسك في منزلك تعيش الثقافة «الأنانية» نفسها، وأما في العمل فلسان حالك يقول ليس المهم هل أنا مؤهل لهذا العمل أم لا، بل «المهم أن أكون مديرا».