بدأت إيران تخرج من تحت وطأة العقوبات الأمريكية حتى قبل أن تُرفع عنها. فهي تكثف الهجمات الحوثية على مواقع مدنية ومنشآت «أرامكو» وخزاناتها في السعودية، ولا تهدف إلى إنهاء حرب اليمن، بل إلى الضغط بالصواريخ والطائرات المسيرة في اتجاهين: كي تحسم واشنطن قرارها بالموافقة على آخر الشروط الإيرانية لتوقيع الاتفاق النووي الجديد، وكي تحسم الرياض قرارها بالموافقة على «تطبيع» العلاقات بالشروط الإيرانية أيضاً.

وفيما أوفدت طهران وزير خارجيتها إلى دمشق وبيروت لتقول إنها ستكون جاهزة قريباً لإحداث فارقٍ في الأزمتين الاقتصاديتين في سورية ولبنان، فإنها عادت إلى الاعتراض على الاتفاق السعودي– الكويتي للاستثمار في حقل الدرة النفطي بذريعة أن «أجزاء منه» تقع في نطاق المياه غير المجدد بين الكويت وإيران...

هذه ليست سوى بدايات للمرحلة المقبلة، وكانت إيران سجلت سابقتين مرتا بلا مساءلة أمريكية: ضرب منشآت «أرامكو» عام 2019، قصف «الحرس الثوري» أربيل بالصواريخ قبل أسبوعين...

لكن ثمة مؤشرات إلى أن «ما بعد الاتفاق النووي» لن يكون كما قبله. من لقاء شرم الشيخ إلى لقاء العقبة فإلى لقاء القدس، هناك «تحالف ضرورة» يتبلور في المنطقة.

وفي الخلفية قضيتان: الحرب في أوكرانيا، والاتفاق النووي الجديد. فالحرب طرحت حتى قبل أن تبدأ مشكلة الحاجة إلى إمدادات نفط وغاز خصوصاً إلى أوروبا، لكنها دهمت دول الخليج والشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل، وهي في خضم تعاملاتها مع روسيا (والصين) واستعدادها للتعايش مع أمريكا غائبة/ حاضرة في شؤون الإقليم. أما الاتفاق النووي، كما يتبدى لدول الخليج، فليس متوقعاً أن يؤسس لأي تهدئة في المنطقة، بل إنه يجدد الترخيص لإيران كي تواصل استخدام ميليشياتها في زعزعة الاستقرار كما يفعل حوثيوها حالياً ضد السعودية، ثم إن الدول الغربية المعنية بهذا الاتفاق وجدت له وظيفة أخرى هي الاعتماد على النفط الإيراني. كل هذه العناصر يفسر إعراض السعودية والإمارات عن تعويض ذلك النقص.

قد تبدو الدول المنخرطة في هذه اللقاءات كما لو أنها أصبحت للمرة الأولى مناوئة للولايات المتحدة والغرب، ما يمكن أن يثير أيضاً استغراباً وتساؤلات. وقد يقال إنها لا ترتاح إلى هذه الإدارة الأمريكية، كونها من جهة استحسنت سيناريو «توريط» روسيا ولم تُظهر ما يكفي من حزم وحكمة لمنعها من غزو أوكرانيا وتدميرها، ولأنها من جهة أخرى استسهلت الرضوخ لشروط إيران في مفاوضات فيينا آملة في اجتذابها إلى جانبها في المواجهة مع الصين، حتى لو اقتضى الأمر نقل السياسة الأمريكية من «الضغوط القصوى» على إيران إلى البحث عن حيلة دبلوماسية لرفع اسم «الحرس الثوري الإيراني» من قائمة المنظمات الإرهابية.

لكن المنطقة مأزومة، ولم تكن دُولها/ أو لم تستطع/ أو حتى لم ترد أن تكون جاهزة للاستقطاب المطروح عليها: إما الغرب وإما روسيا.

ذاك أن الولايات المتحدة وتقلباتها من نقيض إلى نقيض، بين إدارتي أوباما (وبايدن) وترمب، هي التي دفعت العرب للتوجه شرقاً إلى روسيا (والصين) ولعقد مصالح مع هاتين الدولتين. في المقابل لا تبدو دول المنطقة جاهزةً أيضاً للتخلي عن ارتباطاتها المزمنة و«التاريخية» مع الغرب، لكن ذلك لا يمنعها من انتهاج قدرٍ من التباعد مع الخيارات الغربية، إذ إن حرب أوكرانيا والاستقطابات المواكبة لها تفاقم احتقانات المنطقة وتنعكس سلباً على اقتصادات البعض وعلى الاقتصادات + الأمن الغذائي للبعض الآخر، فيما ينعكس الاتفاق النووي سلباً على استقرارها أمنياً واجتماعياً.

أدى اشتعال حرب أوكرانيا في الوقت الذي تتخلى فيه أمريكا عن «التزاماتها» تجاه الخليج والشرق الأوسط إلى انكشاف التغيير الذي كان يحصل ببطء في التوجهات العربية، إذ تأكد للعرب أن ما تسمى «التزامات أمريكية» لم تحل/ أو بالأحرى لم تشأ أن تحل أياً من أزماتهم، بدءاً بالقضية الفلسطينية وصولاً إلى المسألة اليمنية وما بينهما، بل زادت في إحباطاتهم وانقساماتهم.

وفي السياق نفسه، أدى التفاوض على الاتفاق النووي إلى انكشاف «الخيار الإيراني» لدى واشنطن، خلافاً لكل ما تظهره سياسياً في لقاءاتها مع العرب.

فهي تظاهرت مثلاً بأن إزالة تصنيف «جماعة الحوثيين» كمنظمة إرهابية كان خطوة هادفة لإنهاء حرب اليمن، لكن تبين أن هذه الخطوة كانت بمثابة رسالة لإبداء حسن نية تجاه طهران برغم ما فيها من خداع ذاتي قبل أن تكون خداعاً لأي طرف آخر.

كانت إدارة بايدن شددت على أن إحياء الاتفاق النووي لن يمر من دون ضبط البرنامج الصاروخي والسياسات الإقليمية لإيران ثم تخلت عن هذين الشرطين، ثم قالت إنها تميز بين عقوبات تتعلق بالشأن النووي وأخرى تتعلق بحقوق الإنسان ودعم الإرهاب، وإنها لن ترفع «كل العقوبات» كما تشترط طهران، غير أنها تدرس الآن رفع العقوبات عن «الحرس الثوري» لتزيل آخر عقبة أمام توقيع الاتفاق الجديد، بل إنها اضطرت لتوفير ضمانات مكتوبة لروسيا بأن العقوبات التي فُرضت عليها بسبب غزوها لأوكرانيا لا تشمل علاقاتها التجارية والعسكرية مع إيران.

كل ذلك لتسريع الاتفاق والحصول على نفط وغاز، لكن مَن قال إن إيران متعجلة لتلبية حاجة الغرب أو لدعم العقوبات على روسيا، أو إنها لن تستخدم ملف الطاقة لابتزاز الغرب كي يعترف بنفوذها في الدول العربي الأربع التي احتلتها وأمعنت فيها تخريباً.

مثلما أن فلاديمير بوتين يخوض حربه في أوكرانيا لاستعادة «الإمبراطورية» الروسية، كذلك يخوض نظام الملالي حروبه لاستعادة «الإمبراطورية» الفارسية.

لكن الولايات المتحدة التي لم تذهب إلى تسوية مع روسيا لتجنيب أوكرانيا /العالم ويلات الحرب المرشحة للتوسع، تستعد لتسوية ترضي إيران على حساب العرب حتى لو قادت إلى حرب، بل إلى حروب في المنطقة. فكل ما سبق، خلال العقدين الأخيرين، كان حروب إيران لمد نفوذها وتمكين ميليشياتها ونشر صواريخها ومسيراتها، أما المرحلة المقبلة فستكون لتنظيم هذا النفوذ وتثبيته اعتماداً «على أمريكا» وعلى سلاح نووي ستتوصل إليه بـ«اتفاق» مع القوى الدولية أو من دون اتفاق. ومن الحجج التي شاعت قبل أيام أن واشنطن يمكن أن ترفع العقوبات عن «الحرس الثوري» لقاء تعهد مكتوب بوقف التصعيد الإيراني في المنطقة.

كانت تلك العقوبات على «الحرس» رمزية، ولم تمنعه من تنفيذ كل مخططاته وعملياته، أما «التعهد» المطلوب فليس سوى نكتة سوداء لا تُضحك حتى المفاوض الأمريكي روبرت مالي ولا رؤساءه.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»