كل إنسان يسره أن يكون فاضلا في نفسه وعند الناس، ويسره -أكثر من ذلك- أن يكون فاضلا عند الناس، وإن لم يكن كذلك في حقيقة أمره، وفي ذلك ما يشبه التعويض عن الاعتلال الذي يجده ملازماً له في نفسه.

والفاضل والمفضال صفتان مأخوذتان من (الفضل)، والفضل هنا لا يحتاج إلى تعريف، وهناك (فضل) آخـر وددنا أن هاتين الصفتين مشتقتان منه، وهو ما يدل على (بقية) الشيء إذا استغنى عنها، وقذف بها في وجه من أراد أن يتعزى بها!.

وقد ألف كثير من الناس أن يقولوا عن كل إنسان إنه فاضل كلما كتبوا إليه أو تكلموا عنه أو خاطبوه، وقد قيلت لي ألف مرة، فيما يبعث إلى من الرسائل، وفي غيرها.. وأصبح لها بحكم تردادها على سمعي ولساني، وطول إيحائها في نفسي مثل الدوي الذي يرن في الأذن ويستمر رنينه كلما تداول سمع المرء أنمله العشر، كما يقول أبو الطيب.. وخشيت أن أصبح فاضلا حقاً، وإن كنت أتمنى ذلك، وعاد رأسي من طول التفكير في (فاضل) هذه، مثـل الأرجوحة وحده يديرني يميناً وشمالا، وأصبح لها جسمي في مثل (الطاحونة).

ولا مراء في أن كل إنسان إذا أعياه أن يكون فاضلا حقاً، فإنه سيدعى ذلك، ويلقيه في أخلاد الناس، وسيجد أخلاد كثير من الناس هلاميـة من رخوة؛ تقبل كل شيء، ولا تطلب الدليل، كلما قيل لها إن الجمل صعد في المنارة.. كما يقولون.

ولكني -لعثار حظي- أجوع، ولا يمكنني أن أستعيض عن اللحم برائحته على بعد أميال فأعود شبعان لأيام. ولماذا أتعب نفسي، والميزان في يدي، وفي وسعي أن أزن نفسي، وأعرف أي فاضل يمكن أن أكون؟، وسأجرد نفسي من تأثير البيئة والجو والمخالطة، وإن كان تأثيرها لا ينكر، وأنظر إلى نفسي من جانب خاص، قد ينساه الكثيرون كلما أداروا النظر إلى نفوسهم.

أنا لست فاضلا.. أنا أكذب دائماً -لا أحياناً- وأيسر كذبي أني أستحي من صديق فأصوب فعله، وإن كان مخطئاً وأنافق مع كبير، فأراه عدلا، وإن كان ذا عوج.

ولا ريب أني مداهن، كلما أجمع مجلس حاشد على مدح إنسان فشايعتهم على هذا المدح، وإن كنت أعتقد في قرارة نفسي أنه يستحق الذم.

ولا جرم أني لص.. لص صغير طبعاً، فإني أحب أن يزداد مالي، ويمد أخطبوط ثروتي ذارعه في كل ناحية، وكأنه ليس من شأني أن أسأل من أين جاءت هذه الثروة، وهل تحل ما تحرم؟

لا من ناحية الدين فقط، بل كذلك من ناحية المروءة والإنسانية والضمير. ولا شك في أني أعمل المخازي في الليل، ولو لم يكن في ذلك إلا أني أتمثلها وأستعيد ماضيها أو أحلمه بما استقبل منها، ولكني أمام الناس ألبس مسوح الزاهد العابد المتبتل؛ لا الفاضل فحسب! وقد تكون سمعتي سيئة عند الكثيرين، ولكني أوهم القليلين الذين حولي أن سمعتي عند الناس جميعاً أحسن من البدر ليلة التمام، وأتسلى بالقلة من الناس عن الكثرة في سمعتي المثلومة.

وقد أحترم إنساناً، وأتعلم من أجله آخر وأحدث فنون (الانحناء)، حتى أقدم إليه أرفع احترام ممكن، وأنا أفهم كل الفهم بعد إيمان صحيح أنه جدير بالصفع والإزدراء، وقد تخدعني الكلمة الطيبة من إنسان فأضفي عليـه بالمثل أطيب منها، وأنا أعلم صدق العلم أن كلينا غير حقيق بهذه الكلمة الطيبة.

ويشهد لي أحدهم بأني بارع في الشعر، فأضطر إلى أن أشهد له بأنه هو الآخر بارع جداً في القصة –مثلا، وأن ذوقه من أسمى الأذواق، وبعد أن يذهب (أجبر الكسر) في نفسي، وتنتهي العملية الحسابية، وإنا غير بارعين في كل ما شهد به أحدنا للآخر!.

ويحدثني بعضهم عن شخصيات ويحسن النفخ في البوق، فإذا أنا بفعل الإيحاء، قد سحرني النغم، وتهيأت للرقص، ويترك مجلسه وأنظر إلى الأمر نظرة عقلية مجردة، وإذا أنا أحس بأن اللعاب يتحلب في فمي، ولكن أين من أبصق عليه؟.

إلى كثير وكثير.. فأين الفضل؟ كلا.. إني لست فاضلا، بل مازلت من أبعد الناس عن أن أكون ذلك الفاضل!. ومع ذلك، فعلى القارئ الذي يعنيه أن يقرأ مثل هذا الهراء أن يبسط أنامله، ويعد على مثل المقياس أو على مقياس أدق وأضبط منه، ويفيدني أفاده الله.. کم فاضل نجد في هذه الدنيا؟.

١٩٤٨*

* شاعر وكاتب سعودي «1916- 1993»