(1)

لفت نظري عنوان رئيس في "عكاظ" الأحد الماضي: "كراسي الغرف التجارية للبيع". وظننته مبالغة في صياغة "مجازية" هدفها لفت النظر و"المشاغبة" على مجالس الغرف التجارية التي يسعد الكثيرون من منسوبيها بنقدها، لكنني حين قرأت تفاصيل الخبر أصابني الذهول! هل حقاً يمكن أن تكون القدرة على "الدفع" هي معيار الكفاءة الذي يسمح بتقدم الصفوف في عصر العلم والمعرفة؟.. وهل يعقل أن يتحول العمل العام إلى "مزاد" يفوز فيه القادرون على رفع الأسعار؟

يقول الخبر إن مجلس الغرف السعودية وضع "تسعيرة" لكراسي رؤساء ونواب وأعضاء مجالس الأعمال السعودية الأجنبية واللجان الوطنية. وإن المجلس يعكف على وضع تفاصيل "المزاد" الذي سيصل فيه ثمن كرسي رئاسة مجلس الأعمال إلى (30000) ريال وكرسي نائب الرئيس (15000) ريال وكرسي العضوية (7000) ريال.. أما كراسي اللجان الوطنية فستكون أسعارها "متهاودة" تتناسب مع "ذوي الدخل المحدود". وإذا أراد أحدهم أن تقدم الصفوف للجلوس على كرسي الرئاسة فعليه أن يدفع (15000) ريال أما إذا كانت طموحاته تقف عند حدود كرسي نائب الرئيس فعليه أن يدفع (7500)، وعلى القنوعين المكتفين بشرف عضوية اللجنة أن يضيفوا إلى "ثروة" الغرف التجارية (3750) ريالاً. وأشار مراسل الصحيفة إلى اعتراض وتحفظ بعض رؤساء اللجان وأعضاء مجلس الأعمال السعودي على هذا القرار ووصفوه بالمعارض لمفهوم العمل التطوعي الذي هو الأساس في أعمال مؤسسات المجتمع المدني ومنها الغرف التجارية.

( 2 )

لن أدخل في جدل عريض حول وجاهة وموضوعية الأسباب والتفاصيل المالية الداعية لاتخاذ هذا القرار وأمثاله، فلهذا الأمر أهله الأكثر قرباً مني إلى قضايا الغرف التجارية والصناعية وأوضاعها المالية، وأعرف بطبيعة أعمالها ومصادر تمويلها ومجال إنفاقها، ودور أجهزة الرقابة على إنفاق عائداتها.. ولن أدخل في دائرة ما يوجه إلى الغرف التجارية الصناعية – في عمومها – بأنها تحولت إلى مؤسسات "لجباية الأموال" من صغار التجار والصناعيين وإنفاقها على "وجاهة" كبار رجال الأعمال ومصالحهم وتلميع صورهم بمجاملة بعض المتنفذين والترويج لإنجازاتهم من خلال اللقاءات والمؤتمرات والمنتديات والوفود التي تُنفق فيها ملايين الريالات دون أن يكون لها عائد "مؤثر" على غالبية منسوبي الغرف. ولن أتبنى وأخوض في ما يقوله صغار المنتسبين من أن مجالس الغرف التجارية لا تهتم بهم إلا مرة، كل أربع سنوات، حين يحل موعد الانتخابات فعندها يتذكر أعضاء المجالس الطامعون في تجديد عضويتهم، صغار المنتسبين وتنزل عليهم رحماتهم ويبدون تعاطفهم ووعودهم بحل كل مشاكلهم.

(3)

كل هذا – وغيره من شؤون وشجون الغرف التجارية وعلاقتها بمنسوبيها – ليس هو موضوعنا في هذه السطور، موضوعنا هو ما يثيره الخبر المنشور ويتعلق بمبدأ "شراء المناصب" الذي عفا عليه الزمن وأصبح "نكتة" يتندر بها قراء التاريخ بعد أن تجاوزته النظم الإدارية المتطورة والمجتمعات الراقية. وتجديده في مجالس الغرف، ـ إن صح بأي صورة كانت ـ يعد صدمة يتجاوز صداها قاعات مجالس الغرف الفاخرة إلى محيط أعم وأشمل وأخطر لأنه يتعلق بالمستقبل ويؤثر في أساليب "إدارة المجتمع" ووضع معايير تقديم الأشخاص إلى الصفوف الأولى لتولي المسؤوليات العامة. وما أثاره قرار "بيع الكراسي" وما يرتبط به من إشارات ودلالات وما قد يترتب عليه من ترسيخ "تقاليد" خاطئة، كلها "منبهات" تستوجب التعليق والمناقشة حتى تستبين الأمور وتصحح الأخطاء. ومجالس الأعمال يفترض أنها تجمعات لأهل الرأي والخبرة و المبادرة والرؤى القادرة على قيادة الاقتصاد إلى الأمام وهذا الهدف لا يتقدم له إلا الراغبون في الخدمة العامة والمتحمسون لها القادرون على التوفيق ما بين تضحياتهم من أجل خدمة العموم وبين متطلبات أعمالهم الخاصة.. ونحن مجتمع بشري فيه كل ما في المجتمعات البشرية من الظواهر السلبية، ومنها حب الظهور والرغبة في الأضواء وشهوة الاستحواذ على المشهد العام. وكثير من المتصفين بهذه الصفات لديهم الإمكانيات المادية التي تمكنهم من "شراء" هذا الحضور الذي لا تؤهلهم له كفاءاتهم وقدراتهم وعلمهم.. ولعل البعض منكم يتذكر كيف استطاع بعض ناقصي الكفاءة الدخول إلى مجالس بعض الغرف التجارية بشراء الأصوات وتجييش المنتفعين لجمع السجلات وتجديدها قبيل الانتخابات. وكانت مثل هذه التصرفات والسلوكيات تتم بصورة غير قانونية وفي جو من الاستهجان والرفض الأخلاقي من غالبية منسوبي الغرف والمجتمع، فإذا أبحنا "تقنينها وتشريعها" فسنكون قد فتحنا الأبواب الواسعة لدخول غير الأكفاء إلى الكثير من مرافقنا و"محاضن" العمل التطوعي العام.. وبهذا نكون قد وجهنا ضربة لمعيار الكفاءة والأهلية والصلاح. وكيف يمكن أن نتصور أن رجال الأعمال الناجحين أصحاب الخبرات والتجارب والأفكار الخلاقة المستنيرة ينقادون لرئاسة شخص ليس له من المؤهلات إلا قدرته المالية؟.. أعرف أن المبالغ الواردة في الخبر لا تشكل عبئاً على غالبية رجال الأعمال فهناك آلاف القادرين على دفعها للجلوس على كراسي رئاسة المجالس وهم من أصحاب الكفاءة المؤهلين لهذه المكانة، لكن وضع "تذكرة" مالية توصل إلى كرسي القيادة في الغرف التجارية سيسيء لهؤلاء الأكفاء ويلحق الضرر بسمعة مجالسها.

وقبل التوقف لا بد من التأكيد أن هذه السطور لا توجه التهم لأحد وليس غرضها التشكيك في مقاصد من طرح الفكرة وناقشها ورأى وجاهتها لكنها ترى – وقد تكون مخطئة- أن "بيع الكراسي" مفهوم يسيء إلى روح الشفافية والكفاءة ومعايير الأهلية التي يتقدم بها الإنسان إلى الصفوف الأولى بين أقرانه من أجل الخدمة العامة.