«الحرية هي حرية القول إن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة. إذا سلمنا بذلك، فالبقية تتبع»..

عبارة يخطها وينستون سميث، بطل رواية جورج أورويل «1984»، في مفكرته.

وجورج أورويل يرينا في «1984» أن بالإمكان لي الدماغ، وجعله يعتقد أن اثنين زائد اثنين يساوي خمسة، أو ثلاثة، حسب حاجة الساعة، ويرينا أن لذلك طريقة كلامية أو «منطقية» تسمى «ازدواج التفكير» (Double think)، وهي من أسرار القوة.

وقد عرف «أورويل» ازدواج التفكير كما يلي: «أن تعلم ولا تعلم.. أن تحس بالصدق التام وأنت تنطق بأكاذيب دقيقة التلفيق.. أن ترى في الوقت الواحد رأيين يمحو كل منهما الآخر، وأنت تعلم أنهما متناقضان، ومع ذلك تؤمن بكليهما.. أن تستخدم المنطق ضد المنطق.. أن تلقي عنك بالأخلاق في حين أنك تدعيها.. أن ننسى كل ما كان من الضروري نسيانه، وأن تستحضره في الذاكرة باللحظة التي تطرأ إليه حاجة، وأن تنساه في الحال ثانية، وفوق ذلك كله أن تطبق هذه الطريقة على الطريقة نفسها..».

هذه الطريقة المنطقية، التي يراها «أورويل»، تطبق على التفكير، وتفسير الأحداث في عالم المستقبل، وهي الكابوس الرهيب الذي كان «أورويل» يراه لا بد له، في رأي «أورويل»، من تشويه مستمر مقصود للحقائق والتاريخ، ذاكرا تشويه الروس بعد الثورة تاريخ الثورة نفسها (إذ قللوا من شأن تروتسكي وزينوفييف وكامينيف، وغيرهم من أبطال الثورة، وأقحموا اسم ستالين)، ومنع السوفييت ذكر الحلف الذي أبرموه مع الألمان النازيين في 1939، وموقف الشيوعيين من حلفائهم التروتسكيين في الحرب الإسبانية في 1937.

ويبدو أن ما حدث لجورج أورويل في الحرب الإسبانية هذه كان ملهمه الأكبر بعد ذلك في حملته الفكرية المتواصلة على هيمنة أي حزب من الأحزاب على العقل عن طريق تشويه الحقائق، وقلبها أحيانا رأسا على عقب، فبعد أن انخرط في حركة اليسار الإنجليزي، صمم على الاشتراك في الحرب الأهلية الإسبانية، والتحق بوحدة تتألف من التروتسكيين الذين كانوا يقاتلون إلى جانب الشيوعيين.

وفي إحدى المعارك العنيفة، أصيب برصاصة في عنقه، كادت تودي بحياته. وقد وصف في كتابه، وإجلالا لـ«قطلونية» (Homage to Catalonia)، حنقه على الفظائع التي رآها في تلك الحرب، والخلافات الداخلية الضارية، ولا سيما قسوة الشيوعيين وغدرهم، مما أدى إلى تحطيم مقاومة أعداء فرانكو، وبلغ به الألم والغضب الذروة عندما رأى الشيوعيين فجأة (وهو ما زال يعانى جرحه) يتقلبون على جماعته، ويرمونها بالخيانة، ويخلون مكاتبها، ويعتقلون قادتها، ويقتلون معظمهم، متهمين إياهم بأنهم عملاء فرانكو، وجواسيس الفاشية!، ولم ينج بنفسه عبر الحدود إلى فرنسا إلا بمشقة ومرارة.

هذا القلب الفجائي لواقع الأمر كان في رأيه جزءا من مخطط يتكرر، في أشكال متباينة، يستهدف إبقاء القوة في أيد صلية عاتية، لا يهم أصحابها تغيير الحقائق وتحطيم المبادئ بقدر ما يهمهم ما يسمیه «ازدواج التفكير».

«أورويل» قد عالج هذا في «مزرعة الحيوان» (Animal Farm)، التي فرغ منها في أوائل 1944.

وهي على الرغم من قصرها، فإنها قصة لا شك باطنها عميق مريع.

إنها قصة ثورة تقوم بها الحيوانات في إحدى المزارع على صاحبها، الإنسان، بقيادة خنزيرين. العبقري الآخر، جوناثان سويفت، جعل منه «أورويل» مرة مادة لإحدى دراساته النقدية، فهو كـ«سويفت»، حين أخذ يكتب «رحلات غلفر» الأخيرة، يتنامى عن السخرية الضاحكة بعد كتابه «مزرعة الحيوان» إلى أن يبلغ حدا لا يرى عنده إلا كل ما هو كابوسي ومقزز للنفس.

كتب «أورويل» 1984 بين 1947 و1949، وهو تحت وطأة مرض يشتد عليه، ويزيد ولا ريب من تشاؤمه. لهذا، فإن بطله «سميث» لا يستطيع التمرد إلا بكتابة بضع عبارات هرطقية في مفكرته، والإغراق في علاقة غرامية مع «جوليا» في غرفة ظنها بعيدة عن الأعين، وإذا هي الفخ الذي يطبق عليه.

وقد قال بيرتراند راسل، معلقا على ذلك: «أورويل» كان كسلفه «سويفت»، ينتمي إلى حزب منهزم، فسار كلاهما من الهزيمة إلى اليأس، ولعله بلغ الأوج المأساوي الذي أدركه شكسبير في فترته الوسطى. ولنذكر قول «أورويل» في «ديكنز»: «إنه يضحك، وفي ضحكته مسحة من الغضب، ولكن لا حقد فيها، ولا استعلاء. إن وجهه وجه رجل يصارع دوما شيئا ما، ولكنه يصارع دوما علانية وجهارا، ولا يخاف. إنه وجه رجل استبد به غضب كريم...». هذا الوجه يكاد يكون وجه «أورويل» نفسه.

1963*

* أديب وأكاديمي فلسطيني «1920 - 1994»