هذا مقال للبوح الذاتي وما يمكن البوح به هنا، أن موقفي من (المتفلسفين ضد الفلسفة) أمثال (طه عبدالرحمن، عبدالوهاب المسيري، أبو يعرب المرزوقي، وائل حلاق) يعود في جذوره إلى سنوات النشأة التي عشتها في ظل والدي (عسكري متقاعد من سلاح المشاة)، شديد الانضباط في كل شيء بالمعنى الحرفي المرهق للكلمة، حتى نوع الأكل ودرجة حرارة الماء الذي يشرب، مع قبول فكري لأي نقاش يفتحه أبوقيس معه دون أي تحفظات من أي نوع، كقولنا: هل الشيطان حقيقة أم خيال؟

ثم يختم جلسة النقاش مع آذان الصلاة بترديد كفارة المجلس وكأنه يمد سجادته على كل ما قيل من أفكار وآراء غريبة).

ولكنه من جانب آخر ورطني وأخي (ماجد) في مدرستنا الثانوية قبل أكثر من ثلاثين عاما، عندما أدخلنا معلمون حركيون إلى جماعة النشاط الدعوي، لأني وأخي من الطلاب المميزين في الإذاعة المدرسية، وطلبوا مني وأخي توقيع رسالة ترفع للوزارة لأن في كتاب القراءة الإنجليزية ما لا يناسبهم،

فحضر والدي الطيب لمدير المدرسة وقال بالنص:

(أبنائي في ذمتك.. بقايا جهيمان لا يقتربون من أولادي)، وكانت النتيجة- التي أريد إيضاحها لمن يعطيني شهادة تضحية لا أستحقها- بأن أخي ماجد هو (الضحية الحقيقية) للصحوة ولست أنا، فقد كانت نتيجة الزيارة، إقصاؤنا من الإذاعة المدرسية، وممارسة الضغط النفسي علينا، لنتحول من طلاب مميزين إلى طلاب منبوذين، وكنت أحتمل هذا الضغط وأفهمه جيداً، لكن أخي ماجد لا يحتمله ولا يريد أن يفهمه، فكانت النتيجة نجاح أخي ماجد بدرجات مميزة في جميع المواد العلمية ورسوبه في جميع المواد الدينية، وعندما يسأله الوالد عن ذلك كان يجيب بغضب:

لا أريد أن أحضر للمدرسة ولا أريد أن أنجح، فكان أن أنهى الثانوية العامة من خلال انتقاله إلى ثانوية أخرى.

وأقول إنه ضحية حقيقية للصحوة لأن أحد المعلمين (الأنقياء) أخذني لوحدي وقال لي:

أخوك ماجد أذكى منك في الدراسة، وهو الصغير عنك، فحاول إقناعه ببعض الانضباط والصبر عليهم، ولكن ماجد عاش ولا يزال بقلبه وحدسه الذكي الذي أكسبه حياة كريمة تفوَّق بها على صاعدي سلم الوظائف المدنية من (أمثالي).

ولا يمكن أن أنسى في منطقة عسير على المستوى الثقافي (محمد زايد الألمعي) الذي عرفته وعرفه غيري كمفكر من طراز رفيع، مما جعل الدكتور علي بن محمد الرباعي يقول في تغريدة صادقة:

(نصف مشاريع جيل ثقافي، صاغها محمد زايد الألمعي)، ثم يختزله كل أصدقائه وبعض حوارييه بأنه مجرد (شاعر).

وكذلك لا أنسى الجليلين (إبراهيم طالع الألمعي وإبراهيم شحبي)، وأضيف لهما (عائشة عبدالعزيز الحشر) التي عجز (موظفو الثقافة) في عسير عن تكريمها حتى الآن.

أما (معظم وليس كل) أسياد المشهد الثقافي في عسير -مع احترامي وتقديري لكل المناصب أو الشهادات التي حملوها - إلا أنهم لا يتركون أثراً (فكريا/‏‏‏ثقافيا) عندما يلتقيهم الشاب المتعطش للثقافة لسبب بسيط، وهو أن الجيل الشاب كان يرى فيهم سمت (الموظف القدير) الذي يمارس وظيفته (الثقافية) بوقار ثقيل على روح الشباب، دون أن يرى فيهم روح (المثقف) الذي يمارس الثقافة كورطة (وجودية) دافئة ومتواضعة وصادقة تخلب العقل والوجدان، لا كحالة (استعراضية) فيها من الاستعلاء اللزج ما يوضح سبب انصراف جمهور الشباب عن معظم قاعات الفكر والثقافة، وشكراً للحضارة الإنسانية الحديثة ممثلة في وسائل التواصل التي جعلت (بودكاست) لفريق من المثقفين الشباب، يتفوق على بعض مؤسسات الثقافة. وما ذكرته عن أصحاب المناصب والشهادات لا يعيبهم أبداً، لكن ينقصهم الاعتراف به ليرتقوا بأنفسهم (فكرياً) كما ورد في تساؤلات بول فيرابند:

(ولكنك أنت نفسك فيلسوف!

ص: كلا.... أنا أستاذ فلسفة س: وما الفارق؟

ص: الفيلسوف روح حرة طليقة، أما الأستاذ فموظف مدني يلتزم بقواعد معينة ويتقاضى أجراً عن عمله...). ثلاث محاورات في المعرفة/‏‏‏بول فيرابند ص227.