عادة لا نبحث في أصل الرموز والشعارات التي تكون بمثابة الإرث الثقافي والشعبي، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أهم الشعارات التي تمسنا -نحن المسلمين- شعار الهلال، والذي يتصوره الغالب أنه يعود إلى العصر الإسلامي الأول، ويعزز هذا الظن اتّباع المسلمين التقويم القمري كمواقيت زمنية، على بداية الأشهر وبالأخص شهر الصيام وأشهر الحج.

غير أن رمزية الهلال ارتبطت تاريخيًا بالأنثى الإلهية، كعشتار عند الفينيقيين، وسيلينا عند الإغريق، وديانا عند الرومان، والتي كانت تجسد في المنحوتات مع هلال يتجه إلى السماء، وفي عصرنا الحاضر، وعند الحديث عن الديانات السماوية، فإنه يُرمز إلى اليهودية بنجمة داود السداسية، ويرمز للنصرانية بالصليب، وأما المسلمون فيرمز لهم بالهلال، فكيف أصبح هذا الشعار الوثني شعارًا للإسلام؟

سأنطلق من أثر ذكره ابن حجر في كتابه: (الإصابة في تمييز الصحابة)، حيث قال في ترجمة سعد بن مالك بن الأُقيصر الأزدي إن ابن يونس قال: «إن مالكًا وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعقد له راية على قومه سوداء فيها هلال أبيض»، ربما كان هذا أقدم أثر يروى عن اتخاذ الهلال شعارًا في الإسلام، والذي ظل لسنوات طويلة يتم تداوله بين الناس، وعلى الرغم من إعلال العلماء لهذا الأثر وتضعيفه، وعدم القول بصحته، إلا أنه استمر يقرأ في مدونة مهمة من مدونات الإسلام (الإصابة في تمييز الصحابة)، لأحد أهم علماء الحديث المتأخرين (الحافظ ابن حجر العسقلاني).

وانتقد عبدالحي الكتاني في كتابه: (نظام الحكومة النبوية المسمى: التراتيب الإدارية) بناءً على تصويبه للأثر الذي أورده ابن حجر عن مالك الأزدي، ما ورد في كتاب: (وفيات الأسلاف وتحية الأخلاف، للشهاب المرجاني القازاني) حينما قال: «وضع رسم صورة الهلال على رؤوس منارات المساجد بدعة، وإنما يتداول ملوك الدولة العثمانية رسم الهلال علامة رسمية أخذًا من القياصرة، وأصله أن والد الإسكندر الأكبر لما هجم بعسكره على بيزنطة، وهي القسطنطينية، في بعض الليالي دافعه أهلها وغلبوا عليه وطردوه عن البلد، وصادف ذلك وقت السحر، فتفاءلوا به واتخذوا رسم الهلال في علمهم الرسمي تذكيرًا للحادثة، وورث ذلك منهم القياصرة، ثم العثمانية لما غلبوا عليها، ثم حدث ذلك في بلاد قازان»، وحتى بقول الكتاني بوجود أصل لاتخاذ الهلال شعارًا، فإن العلماء على القول بتضعيف أثر سعد بن مالك التضعيف الشديد، ويواطؤون كلام المرجاني في وفيات الأسلاف، بأن اتخاذ الهلال شعارًا لا يعلم له أصل في الشرع، كونه لم يكن معروفًا في العهد النبوي، ولا الراشدي، ولا في عهد التابعين وتابعيهم، وإذا كانت القرون الثلاثة الأقرب لعهد النبوة لا تعرفه، فليس هو من سنة المسلمين، وإنما انتقل إليهم من غيرهم.

وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- في: (مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين): «وضع الأهلة على المنائر قيل: إن بعض المسلمين الذين قلدوا غيرهم فيما يصنعونه على معابدهم، وضعوا الهلال بإزاء وضع النصارى الصليب على معابدهم، كما سموا دور الإسعافات للمرضى (الهلال الأحمر) بإزاء تسمية النصارى لها (بالصليب الأحمر) وعلى هذا فلا ينبغي وضع الأهلة على رؤوس المنارات من أجل هذه الشبهة، ومن أجل ما فيها من إضاعة المال والوقت»، وعلى هذا فرأي ابن عثيمين عدم جواز وضع الأهلة، وهو أحد أهم المفتين في السعودية.

ويوضح أحمد تيمور في كتاب: (تاريخ العلم العثماني): «أن الهلال كشعار تم اقتباسه من الرومان بعد فتح العثمانيين للقسطنطينية، لأنه كان شعارًا لمملكتهم الشرقية، وهو قول الإفرنج في معالمهم ومعاجمهم التاريخية، ويروى أنه قديم عند البيزنطيين قبل تكون مملكة الروم الشرقية)، فالثابت أن دخول الهلال كرمز إسلامي بدأ مع العثمانيين عندما اتخذوا الهلال شعارًا لدولتهم، تأثرًا مع دخولهم إلى القسطنطينية، بالشعار، ليتحول شعارًا لدولتهم».

وقيل إن الدولة السلجوقية كان شعارها ثلاثة أهلة، وقد تبعتها على ذلك الدولة العثمانية، ولما استقلت الدول من الاستعمار اتخذت الشعار ذاته، ولهذا نجد شعار الهلال في أعلام تونس والجزائر وليبيا وموريتانيا وماليزيا وأذربيجان وتركيا والمالديف وجزر القمر وبروناي وباكستان، وغيرها.

وفي بحث طريف وجميل لراشد بن فضل الدوسري، بعنوان: (رموز الوسوم عند العرب، مجلة الواحة، العدد 60، 2010، ص9) يقول: «الهلال: وسم مشهور، على شكل الهلال، يأتي هلالًا يمينًا أو يسارًا أو علويًّا أو سفليًّا، والهلال من الوسوم العربية المعروفة منذ القدم حتى العصر الحالي. وقد اتخذ الهلال في العصر الحاضر شعارًا للدول التي تدين بالإسلام، فبعض الدول الإسلامية تضع على أعلامها صورة الهلال، كجزر القمر، وتونس، والجزائر، وتركيا، وموريتانيا، والباكستان، وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

ويرمز الهلال في ثقافة العرب إلى النصر، ويطلق الهلال على الحيّة، رمز الموت، الأمر الذي قد يعني أن الهلال يرمز إلى الانتصار على العدو وهلاكه، مع مراعاة الاختلاف في رمزية الهلال عند العرب في الجاهلية والإسلام».

وبالعموم فإن الهلال من الرموز المستحدثة، وهو من شعارات الدولة العثمانية، وأول من اتخذه كشعار هو سليم الأول، والدولة العثمانية هي التي وضعت الهلال على أعلامها وعلى منارات المساجد، وأول من وضع الأهلة فوق القبة الخضراء في المسجد النبوي وعلى منائره، حيث ذكر الشيخ محمد بن خضر الرومي، أن أول وضع للهلال على القبة النبوية كان في شهر شوال سنة 946 للهجرة، وكان من نحاس مموه بالذهب البندقي، ويذكر أنه قبل ذلك بأيام وضع هلال على المنبر النبوي من نحاس مموه، وكذلك على منارات المسجد الشريف، كما جاء في كتاب: (رسائل في تاريخ المدينة، لعدد من العلماء، بإشراف حمد الجاسر).

أخيرًا، كان اختراع الفرنسيين للمعجنات الفرنسية الشهيرة «الكرواسون» والتي تعني «هلال» في اللغة الفرنسية، احتفالًا بهزيمة العثمانيين وكسر حصار فيينا 1683.