عند الحديث عن الشعوبية، لا نتحدث عن ظاهرة قديمة، بل نزعة لا زالت موجودة في عصرنا عبر كتب النقد الأدبي والثقافي، وتعبر عن نفسها بصور جديدة، وتختفي بحلل مموهة، ولكنها لا زالت تشترك مع الشعوبية القديمة بتحقيرها للعرب والتراث العربي، مع اختلاف الدوافع النفسية ما بين شعوبية اليوم وشعوبية الأمس.

أخذت النزعة الشعوبية تفصح عن نفسها دون مواربة في العصر العباسي عبر محاولات حثيثة للحط من شأن العرب بأقسى الأوصاف والتهم الأخلاقية، في «العقد الفريد» يقول المؤلف ابن عبدربه: «قالت الشعوبية: إنما كانت العرب في الجاهلية ينكح بعضهم نساء بعض في غاراتهم بلا عقد نكاح ولا استبراء من طمث فكيف يدري أحدهم من أبوه».

هذه المقولة القاسية التي يرددها الشعوبيون في العصر العباسي - بغض النظر عن صحتها - تعكس الرغبة القوية في تشويه صورة العرب وتحقير شأنهم. ونستطيع تبين الدافع النفسي وراء الحملة الشعوبية ضد العرب، كونها مظهرا من مظاهر البحث عن الذات لدى الأمم التي تغلب عليها العرب، فالأمم المغلوبة أخذت تكيل للعرب كل نقيصة وعيب، وحولوا مفاخر العرب كالشجاعة والكرم إلى نقائص يسخرون منها ويتهكمون بها. الدافع النفسي هنا واضح جلي، ولكن السؤال المطروح: بماذا تختلف شعوبية اليوم عنها بالأمس؟.

المطلع على أطروحات المحسوبين على الوسط الثقافي والأدبي في السنوات الأخيرة، يستطيع رصد نزعة شبيهة بالشعوبية في العصر العباسي مع اختلاف الدافع النفسي، فأصحاب شعوبية اليوم لهم أطروحات عديدة تحاول إلصاق التهم بالحضارة العربية الإسلامية،عبر ربطها بالتطرف والانغلاق وتهميش المرأة وقمعها، ومحاولة إيجاد روابط تاريخية بين التراث العربي وإرهاب العصر الحديث، فضلا عن هجمات عنيفة ضد الأدب العربي، وتصوير الشعراء العرب بأنهم شحاذين ومنافقين، وأنهم أعداء للمرأة والأنوثة، وهناك من وصلت به الحال لتصوير العرب قبل الإسلام بأنهم أمة عاشت قمة الهوان والانحطاط في جاهليتها. كل هذا موجود وتستطيع رصده وتحليله ببساطة في مواقع التواصل والدراسات الأكاديمية، وكتب النقد الأدبي. وتجد النزعة الشعوبية في أقسام اللغة العربية وآدابها بالجامعات العربية مساحة هائلة للتعبير، كونها أقسام تتعامل بشكل مباشر مع الثقافة العربية من خلال تراث الشعر والأدب واللغة، وهنا تكون الشعوبية في أبهى حللها وأوضح صورها.

هناك تيارات فكرية في أقسام اللغة تزدري تراث الحضارة العربية العلمي والأدبي، ويطلقون وصف «تراثي» على كل من يتخصص أو يهتم بهذا التراث، والكل يدرك ما يضمره هذا الوصف من سخرية وازدراء.

ونال سيبويه وأبو الطيب المتنبي نصيب الأسد من حملات التشويه والإساءة، في أطروحات بعض منسوبي أقسام اللغة في الجامعات العربية وصلت لمستوى التشكيك في نسب المتنبي. وظاهرة العداء لسيبويه والمتنبي ليست بغريبة على كل من ينتسب لأقسام اللغة.

مع أن أطروحاتهم تحاول أن تبرر هذا التهجم غير المبرر بأنه نقد علمي بريء لا يحمل أي نزعة عدوانية، وأنه نوع من النقد الذاتي لعلاج مشاكل الحاضر.