العشر الأواخر من رمضان يسن فيهن الاعتكاف في المساجد، وهو شعيرة ذكرت في كتاب الله وجاءت السنة النبوية بأهم أحكامها، واختلف الفقهاء في ما لم يأت به نص صريح من مسائل الاعتكاف، ومما اختلفوا فيه: هل تدخل مدارسة العلم الشرعي في الذكر الذي ينبغي على المعتكف أن ينشغل به في معتكفه، أم يقتصر ما يفعله على الصلاة والدعاء وذكر الله تعالى بأسمائه وصفاته، فذهب الإمام مالك إلى الثاني فلم ير للمعتكف أن ينشغل بغير القرآن والصلاة والذكر، وخالفه الجمهور ورأوا صحة تدارس العلم في المعتكفات. والظاهر أن اللجنة المسؤولة عن النشاط العلمي في المسجد الأقصى مالت إلى رأي الجمهور؛ بل تجاوزت محض مدارسة العلم إلى إقامة دورات علمية للمعتكفين في العشر الأواخر. وهذا أمر لا أرى به بأساً، فأهل القدس في حاجة ماسة لسماع دروس العلم التي تحضهم على الثبات في مصابرة العدو، وتجدد لهم العلم بفضل ما هم فيه من الرباط، وتشرح لهم أصول الدين وأركان الإيمان والإحسان، وتزودهم بالعلم بحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتفسير والفقه، إلى غير ذلك من العلوم التي يحتاجها شعب مرابط يرزح تحت حكم محتل يهودي يخطط كل يوم لإبعاده عن الصلة بدينه، ويعمل على حفر الخنادق بينهم وبين إخوانهم المسلمين.

وقد اطلعت على جدول زعموا أنه للدروس في العشر الأواخر في الأقصى فرأيته معداً بغير عناية، هذا أقل ما نقوله عنه، ولم تراع فيه الاحتياجات الإيمانية والمعرفية للمعتكفين هنالك في هذه الظروف. فثلاثة دروس في التفسير كلها في سورة الحجرات، ومع عظم هذه السورة إلا أن الاقتصار على سورة واحدة يقتضي اختيار ما كان في معانيها ما هو أكثر مساساً بحاجة المرابطين وبالطبع لن تكون سورة الحجرات، ودرس آخر في المنهج الدعوي عند إبراهيم- عليه السلام- وآخر في المنهج الدعوي عند موسى- عليه السلام- وعدد من الدروس في العقيدة على منهج علماء الكلام وهو منهج يخالف منهج إبراهيم وموسى في الدعوة إلى الله، بل ويخالف منهج محمد- صلى الله عليه وسلم- في الدعوة، حيث إن جميع الأنبياء وآخرهم إمامهم نبينا محمد لم يعلموا الناس كلمة واحدة من علم الكلام، وإنما علموهم عبادة الله وحده وشرائع الدين من دون تعقيدات الكلاميين وتفصيلاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ومع كل ذلك نقول: طلبة العلم في مدينة القدس يغلب عليهم الفكر الأشعري الكلامي وقد اجتهدوا في تدريس الناس ما يظنون أنه الواجب عليهم، ومع يقيننا بخطئهم وأن الواقع الفلسطيني في حاجة لغير ذلك إلا أننا قد نلتمس لهم بذلك عذراً أو ما يشبه العذر. أما الذي لا يمكنني أن ألتمس لهم به عذراً ولا ما يشبه العذر هو ثلاثة دروس عنوانها في منتهى الخبث والإغراض وأبعد ما يكون عن مصلحة فلسطين وأهلها فضلا عن أن يكون الفلسطينيون في حاجة إليها، وإنما قررت لغرض سياسي طائفي قبيح وهو استرضاء الكيانين الصفوي والصهيوني.

وعنوان دروسهم الخبيثة هذه: «العنف عند السلفية». تصور عزيزي القارئ أن شعباً في نير الاحتلال اليهودي الصهيوني يشكو كل يوم من قبضته عليه ويطالب المسلمين بدعمه للجهاد ضده يجعل أبرز أنشطته في داخل المسجد الأقصى إدانة السلفيين ورميهم بالعنف، بدلاً من أن يكون الدرس: العنف عند الصهاينة الذين دنسوا الأرض والمقدسات وسفكوا الدم واستذلوا النساء والأطفال ! أي حاجة للفلسطينيين بالانشغال بهذه السجالات التي ليس لها من الأثر سوى مزيد من الفرقة بينهم وبين شريحة عريضة ومهمة من الفلسطينيين السلفيين ومن إخوانهم العرب والمسلمين؟ ثم أي عنف واجهه الفلسطينيون من السلفيين، حتى يحذروا منهم ومتى وكيف؟

إذا لم يجرؤ منظمو هذه الدروس على الحديث عن عنف الصهاينة ألم يكن الأولى أن نجد درساً يحذر المقدسيين من المد الفكري الإيراني الصفوي الذي بدأ بالفعل غزوهم على يدي «حماس» و«الجهاد»، ذلك المد الذي هو أم العنف وأبوه، أحرق العراق والأهوار وسورية ولبنان واليمن، ويعمل على إحراق فلسطين أيضاً.

أجزم أن هذه الدروس ليست إلا بإيعاز من الصهاينة وإيران وعملائهما، ومن قال غير ذلك فليعطني المستفيد من هذه الدروس سوى إيران والصهاينة. فمن الطبيعي أن يعمل الإيرانيون على تشويه دعوة لو لم يكن منها إلا أن الدولة السعودية التي قامت عليها هي وحدها في العالم بأسره من تواجه إيران؛ والفكر السلفي وحده في هذا العالم بأسره هو ما يواجه المد الصفوي الذي تتبناه إيران، لذلك فحينما تشتغل الدعاية في فلسطين ضد السلفية فليس ذلك إلا مصراع الباب لنفاذ هذا المد الخبيث إلى بيت المقدس وأكناف بيت المقدس. كذلك من الطبيعي أن يعمل الصهاينة على تشويه دعوة لو لم يكن منها ضدهم إلا أن أول من علم الفلسطينيين مقاومة الاحتلال أحد أبنائها وهو الشيخ العالم المجاهد عز الدين القسام الذي شهد له تلاميذه وكتاباته وأعماله أنه كان على منهج السلف كما حقق ذلك الشيخ العالم الفلسطيني مشهور حسن في كتابه «السلفيون وقضية فلسطين» >

ومن المفارقات أن هؤلاء الذين يدينون عنف السلفيين يسمون كتائبهم باسمه، وهو بريء- إن شاء الله- من ولائهم للإيرانيين والصهاينة. إن لب السلفية هو دعاء الله وحده والاستعانة به والاستغاثة به سبحانه وإنكار الوسائط من دون الله، وهذا أمر الله تعالى ومنهج الأنبياء من نوح حتى نبينا محمد، وهي أي: السلفية كذلك دعوة مقاومة الاحتلال لدرجة أنه لم يستطع أن يطأ أرضها محتل، وكانت زمن الاستعمار الذي غمر العالم الإسلامي كلما حلت بأرض ثار أهلها على المستعمر، حلت في الهند فظهرت حركة ولي الله الدهلوي، وحلت في الجزائر فظهرت حركة الأمير عبدالقادر ثم حركة ابن باديس، وحلت في المغرب فظهرت حركة عبدالكريم الخطابي، وحلت في نيجيريا فظهرت حركة عثمان فودي، لذلك تتوافق مصلحة الإيرانيين والصهاينة في العمل على تشويهها والبحث عن بدائل لها، والمؤسف أن يكون ذلك التشويه على أيدي من يعدون أنفسهم نخباً فلسطينية!

قد تقول هذه النخب: إنهم يقصدون «داعش» و«القاعدة» وأضرابهما، وليسوا في ذلك بصادقين لأنهم يعلمون أن هذه الجماعات لم تدخل فلسطين، لا واقعاً، ولا فكراً، فلا يوجد لهذا الفكر الغالي أتباع فاعلين هناك، كذلك الحال في إيران أيضا، والسبب هو أن إيران والصهاينة هما من يصدر ذلك الفكر حيث يشاؤون وهما من يدعم أعماله ويرعى كتائبه، لذلك لم يكن له وجود في فلسطين، فلماذا تحذر منه هذه النخب في دروس الأقصى ؛ كما أن وصف هذا الفكر الغالي بكونه سلفياً هو تكميل لهذه المسرحية الخبيثة لأن الكل يدري أن أول من تضرر من هؤلاء هم السلفيون وبلادهم ودولتهم.

وأختم هنا بتساؤل ونصيحة، فالتساؤل، هو كيف تدين هذه النخب العنف وتنسبه للسلفيين مع أنهم يزايدون على المسلمين بوصف أنفسهم بالجهاد والمقاومة، هل يريدون مجاهدة الاحتلال الصهيوني ومقاومته بالورود؟ لا بأس فليختاروا ذلك، لكن عليهم قبله أن يكفوا عن المزايدات على الأمة ويظهروا حقيقة ما يزمعونه من جهاد. أما النصيحة: فعلى الفلسطينيين المرابطين حقاً، والحكماء العقلاء المحبون فيهم، وهم كثير، أن يأخذوا على أيدي سفهائهم الذين لا يفتؤون يحفرون الخنادق بينهم وبين الشعوب العربية وحكوماتها، وليلتفتوا أكثر إلى قضيتهم وشعبهم ففي العمل عليهما شغل عن إلقاء المشاعل في بيوت الجيران ومزارعهم. وبما أنهم قرروا تفسير سورة الحجرات في معتكفهم في الأقصى فعليهم أن يطبقوا تعاليم آياتها ومنها قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساءٍ عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾.