كيف تنظر إلى أشيائك قبل عشرين عاما مضت؟.. ما الفرق بين التافه والعظيم.. بين الضعف والقوة.. بين القلق واليقين؟.. بين الصعود والهبوط.. والسقوط.. والركود؟.. بين الحرية.. والدوار والطواف والحركة؟.. بين متعة أن ترى ما يدفعك إلى السطح حيا وبين أن يلتصق صدرك وعيناك وجسدك كليا بالواقع واللزوجة والأرض التي تسحبك إلى أعماقها محمولا مسحوقا مـقـبـورا.. وأنت لا ترى ولا تعرف ولا حيا؟.

كل هذه الأمور فيما سبق كانت تفجر فيك الأعاصير؟.. كنت أعـجـوبـة بكل غضبك وفرحك.. بكل سخطك ورضاك. كانت براكينك وانفعالاتك التي لا تحد تنطلق من ذاتك.. لم تستعر من خارجها.. إرادة القوة.. والصمود و«الإصرار».

كانت كلها تنطلق من داخلك أو من دواخلك.. وكان لك في أعـمـاق صـدرك ألف باب.. كلها تفتح دفـعـة واحـدة، فـتنطلق الريح والغـبـار والـرعـود والـبـروق.. والحـدة والجبروت.


وكنا سعداء.. سعداء جدا ونحن نستقبل كل هذه الحمم الصادقة.. ما كانت نارك نارا.. ولا لهيبك لهبا.. ولا حدتك نصلا. كنا نقبض على كل الكلمات والحروف التي تـفـر من بين أناملك على الورق.. كنا باحثين عن البطولات.. متعطشين أبدا إلى السيـوف التي تبرق في الظلمات.. وكنت سيفا في الظلام.. ما لبث أن أغمد إلى الأبد..

واحسرتي عليك يا مشعلا أطفاه الظلام.. ونحفظها ونرددها.. ونعشقها. رسالتي هذه ليست حدوتة.. ولا رموزا ولا همهمات ومبهمات.. وليست حكاية شيطانيـة الـتـقـطـت فـصـولهـا.. من الخلف.. فلم أجرؤ على قراءة ملامحها في المواجهة الصعبة مع الوجه الواحد، وهي بالتالي ليست ثقوبا في الحائط اخترقتها بنصف عين..

إنها رسالة حب لكل ذكرى جميلة لم تمت من أذهاننا. إنني ما زلت أرى.. كـمـا كـنت بالأمس.. زواحف الأرض، فـلا أنكرها ولا أرهب سمومها.. وما زلت من خلف تلال النفوذ.. أبصر الرايات.. والبيارق في السماء.. تشهد أن الله الواحد الأحد.. فأرى حيل قومي تزحف إلى الأفق، لتسد عين الشمس.

ما زلت أشهد تفتت الرمل وانحناءات التلال.. وخفر الصبايا.. وارتعاشات الكحل في العينين.. وانسكاب خطوط الحناء الفرحة على ظاهر اليدين.. ما زلت أرى الخـضـاب وعشب الصحراء في المفرقين.. وغمازتين فرحتين في الوجنتين.. تهتفان لمقدم فارس من فرسان الصحراء انتفض المجد عملاقا على هامته ومنكبيه.. فبدا كمارد انشقت عنه الأرض.. أو كملاك هبط من السماء.

على الرغم من كل سنوات عمري، فما زالت يداي وعيناي عالقتين بالطين.. في الوادي.. وحجر صلد أصم بارد علق على صدر جدي كوسام وتعويذة ضد الشياطين.. وعصابة رأسه المعدنية.. تسطع في وجه الشمس.. وكأنها طوق الحقيقة الذي لا يفنى.

ها أنا أقرأ في ملامح الماضي كل ذكرى تمر.. فأتبين أدق تفاصيلها.. وفصولها.. ثم لا تمكث أن تضيع.. إنها ذاكرة الكهول.. لقد أصبحت في سن جدي وأكبر قليلا من أبي.. لقـد شـاخ بي زمني.. وددت لو أكـون مـعـادا ومكررا مليـون مـرة في كل أيامي السابقة بحلوها ومرها.. بشرها وخيرها.. إنها تفد وتأتى دون أن تعرف الثبات، فأسرع لكي أمسك ببعضها، ويهرب مني بعضها الآخر.. وهي تمر.. وترحل.. دون أن أملك حق إيقافها..

إن أدق وصف لهذا هو ما قاله صديقي وأخي الشاعر عبدالله الصيخان:

«مرني الغيم

وحياني ومر

"شالني" من جدب هذي الأرض..

أحياني مطر..».

أوردت هذا البيت من الشعر لعبدالله الصيخان «لأنه أعجبني».. ولكن معظم شعر الأسـتـاذ عـبـدالله الـصـيـخـان.. أو جله لا رتم له.. ربما، ولكن له روح قـد تـكون روح الصيخان وحده.

1994*

* كاتب صحفي سعودي «1942 - 2015»