سنة 1960 کنت أتردد على مقهى القاري Continental، وغداة كل يوم كنت أقابل شخصا الكل يكن له الاحترام والتقدير، ولما استفسرت عن الأمر، قيل لي إنه محمد الصباغ، الكاتب المغربي، لم يسبق لي أن تعرفت على كاتب بعد، فعلام يحاط (الكاتب) بهالة من الاحترام والتقدير.

اعتقدت آنذاك، لسذ اجتي، أن شهرة كاتب ما، حيا أو ميتا، مردها إلى ما ينشره من کتب. منذ ذلك الحين، قررت أن أصبح كاتبا، وأول شيء قمت به أن تعرفت على الكاتب الشهير بعد ذلك، طفقت في عقد قرآن بين الكلمات بطريقة غير شرعية.

هيأت لها طقسا وابتكرت لها عرسا وثنيا وباركتها باسم النثر الشعري، لقد كدست منها والقصائد النثرية، المئات قبل التخلص منها، على طريقة السورياليين، استمد الشجاعة من القهوة السوداء و.... والجمال الذي يفضي إما إلى الجريمة وإما إلى الجنون، إن الحب الذي كنت أكنه للكلمات هو الذي منحني القوة على الاستمرار في الكتابة.

لقد عمدت، حينئذ، إلى بعث الأموات الخيرين حتى يأخذوا ثأرهم من الأحياء الشريرين. أول أمس نشر لي نص بجريدة العلم، وكان نصا نثريا مصحوبا بصورة شمسية لا تخلو من خيلاء، إذ من خلالها كنت أحاول تقليد الشاعر المصري أحمد شوقي، هكذا سميت، كاتبا مغربيا محرضا، حسبت نفسي غدوت كاتبا ذائع الصيت، وفي الواقع كنت كاتبا مغمورا، وأصبحت من بين الكتاب الملاعين في الأدب العربي في تقدير بعض النقاد الأجراء، مدعومين في ذلك من قبل بعض المثقفين السفهاء.

إن تلك الأشياء كانت بالنسبة لي بداية لمغامرة غريبة مع الكتابة: كالنزوة والتهور والشوق إلى نيل شهرة إقليمية.. لقد أسعدت كثيرا بمغامرة عشق على سطح القمر، ليلة صعلوك منبوذ، راضيا عن نفسي، قلت: هذه قصيدة شعرية آية في الإبداع! وهذه رواية عالمية!

غالبية الأشخاص الذين كنت أعرفهم في ذلك الوقت شجعوني على المضي في هذا السبيل، وحتى يشاركوني مجدي، سعداء كي يصبحوا أبطالا خالدين لأعمالي الأدبية، كانوا لا يترددون في أن يقترحوا علي موضوعات كان ينبغي علي صياغتها أدبيا.

تلك كانت سذاجتي وسذاجتهم، سذاجة أقل ما يقال عنها مذهلة.. بيد أن تلك النزعة الإظهارية النزوية (هذا الفخ الذي نصبته للقارئ) كانت عابرة، أدركت للتو أني كنت أشيد أهرامات من رمال.

لقد فهمت أن الشعر لا يمكن اختزاله في اصطفاء الكلمات والكتابة فقط، وأن أي شيء لن يشكل مادة لقصة قصيرة أو رواية أو مسرحية. ينبغي خلق الحدث ضمن الحدث، مثلما تجد ذلك في تحول الأسروع إلى فراشة.

إن الاستنساخ المباشر للأشياء يبعدنا تماما البعد عن فهم الواقع الفني، فبعض التجارب داخلية، معيشية، قد تبدو لنا تجارب نموذجية يمكن استثمارها أدبا قد يمثل هذا جوهر القضية، وقد لا يكون كذلك.

إن فائدة بعض التجارب لا تبدو لنا، أحيانا، إلا بعد فوات الأوان، وذلك حين تضيع منا فرصة تعميقها. إننا لا نقدر التجارب التي نعيشها حق قدرها.

إن حقيقة تجربة ما يمكنها أن تكشف لنا عن نفسها ضمن سيرورة تحولها الفني، ومن ثم، بكل تأثيرها، مثلما وقعت في الماضي، إن لم تكن أكثر من ذلك، من جراء قدرة الإبداع الذي ينبثق عن اللاشعور. إن ذلك يعني أنه قد يمكن أن يحصل لتجربة عادية أن تبقى مادة خاما تخرج عن طوع أي محاولة تهدف إلى إعادة صوغها صوغا فنيا مقبولا.

بقي لنا، إذن، أن نعود إلى التخييل بما أن الواقع عاجز عن أن يقدم لنا ما هو ضروري للإبداع، بيد أن هذا التخييل الخلاق يتغذى على قدرة الملاحظة التي تساعدنا على اكتشاف المعني العميق للأشياء، إن قوة الملاحظة مشدودة، هي الأخرى، إلى الجرأة والحدس، فمهما كان تأثرها بالخوف من المجابهة قليلا، فإنها ستسقط في حلزونية رد الفعل، إن القيمة الحية لمشاعرنا تتوقف على قدرتنا الإبداعية إن الواقع الحقيقي لا وجود له إلا حين تعيد صوغة إبداعيا. إذا ما أخذنا واقع العرب، مثالا على ذلك، أمكننا القول بأن رؤى الشعراء والكتاب التي تقدمها (الحياة العربية) كانت أكثر عمقا.

هناك أمثلة بليغة على تلك الرؤية الكشفية نجدها لدى بدر شاكر السياب والبياتي ومحمود درويش ونجيب محفوظ. إن المبدع الرؤيوي يقتحم قلب المعترك والهجوم، في حين أن الراوي الواقعي ينتظر النصر أو الهزيمة من أجل الإطراء والمديح أو الهجاء اللاذع.

إن الكتاب الواقعيين الذين يصدرون عن أساليب تفتقر إلى الانسجام يعملون على تحويل الشعر إلى أناشيد وطنية والنشر إلى تحقيقات صحافية.

2001*

* كاتب وروائي مغربي «1935 - 2003».