تطرقنا في المقالة السابقة لظاهرة الشعوبية في أقسام اللغة العربية والأدب، وقدمنا نبذة عن الشعوبية القديمة التي ازدهرت في العصر العباسي، وكيف أن أطروحات الشعوبيين القدماء تشابه إلى حد بعيد أطروحات الشعوبيين اليوم، مع فارق الدوافع النفسية بين الحالتين.

وكيف أن أقسام اللغة والأدب أصبحت مصدرا لانتشار الشعوبية المعاصرة، كون هذه الأقسام تتعامل مباشرة مع ثقافات الشعوب وآدابها ولغاتها الحية والبائدة. لذا بالإمكان تمييزها ورصدها بيسر وسهولة. قد يتساءل أحدنا عن الدوافع النفسية الكامنة وراء الشعوبية المعاصرة، وما عوامل تكونها في المجتمع العربي وفي أقسام العلوم الإنسانية، وتحديدا أقسام اللغة وآدابها؟

دعونا نسلط الضوء على عامل مهم من عوامل نشوء النزعة الشعوبية، وهو ابتعاث الطالب لدراسة اللغة العربية أو الأدب العربي في بلد أجنبي.

وكما يعرف بأن الهدف من الابتعاث هو نقل المعرفة من بلد الابتعاث إلى الوطن الأم لأجل توطين المعرفة محليا.

وهذا هدف محمود ولا غبار عليه، ولكن عملية الابتعاث لا تقتصر على مجرد نقل المعرفة بكل حياد لأنها عملية معقدة وتنتج عنها تبعات ثقافية ونفسية على الطالب المبتعث. لأن الطالب يكتسب انتماء جديدا يضاف لانتمائه لوطنه الأم، وهو انتماء لبلد الدراسة، فعندما تبتعث طالبا إلى اليابان أو الصين -على سبيل المثال- فإنه سيحمل نوعا من الانتماء تلاحظه في دفاعه عن بلد الدراسة كما يدافع عن وطنه الأم.

هذا في حال كان مجال دراسته الطب أو الهندسة أو الفيزياء، فما بالك لو كان مجال الدراسة الإنسانيات وتحديدا اللغة والأدب؟.

ابتعاث الطالب لدراسة الأدب العربي في فرنسا أو بريطانيا -على سبيل المثال لا الحصر- سيضع الطالب في دائرة صراع ثقافي، بين موروثاته الثقافية ممثلة في اللغة والتراث الأدبي، وبين ثقافة بلد الدراسة وموروثاته كاللغة والأدب والفكر.

فالصدام بين الموروثات ستنتج عنه صراعات نفسية عند الطالب المبتعث، تبلغ ذروتها عندما تتعارض ثقافته الأم مع ثقافة البلد المضيف خصوصا عندما يجد أن ما يدرسه في بلد الدراسة يتعارض مع موروثاته اللغوية والأدبية.

هنا قد يتبنى الطالب ثقافة بلد الدراسة وتصبح علاقته مع تراث اللغة العربية والأدب العربي علاقة عداء مبطن يأخذ طابع النقد الذاتي للموروث. حين يكلف الطالب المبتعث بدراسة تراث الأدب العربي بواسطة نظرية فرنسية أو أمريكية في النقد في بلد أجنبي، فالتعارض بين الثقافتين لن يكون تعارضا في طريقة اللباس أو أسلوب الأكل أو نمط العيش، بل سيكون تعارضا فكريا وثقافيا عميقا.

فدراسة النظرية البنيوية الفرنسية ومحاولة تطبيقها على تراث الأدب العربي، أو دراسة النظرية التداولية الأمريكية ومحاولة تطبيقها على اللغة العربية لا شك أنه سيصطدم بعدة عقبات ثقافية، سيكتشف الطالب مع مرور الوقت بأنها لا تصلح عمليا لدراسة التراث العربي، ومن هنا يبدأ الصراع النفسي عند الطالب، ويأخذ طابع عداء داخلي للموروث العربي، يفصح عن نفسه من خلال التهجم على اللغة العربية أو النحويين والأدباء العرب.

فالطالب عندما يتخصص في النظرية البنيوية -على سبيل المثال- فإنه يظن بأن نجاحه العلمي وحصوله على المكانة الاجتماعية مرهون بنجاح هذه النظرية وانتشارها على المستويين الأكاديمي والاجتماعي.

فعلاقته مع النظرية البنيوية ستتحول إلى انتماء وسيحاول قدر المستطاع إثبات قدرتها على التفسير والوصف بكل الوسائل والطرق.

ولكن عندما تواجه النظرية العديد من العقبات وتفشل في إثبات نفسها في البيئة العربية، فسيكون لذلك نتائج عكسية على الطالب الذي سيجد نفسه في مواجهة فكرية مع مجتمعه وتراثه ولغته. هذه المواجهة الفكرية بين الطالب وثقافة مجتمعه ستأخذ طابعا تهجميا قاسيا، على الموروثات والأدب والأدباء.