ما قيل في لندن قبل يومين عن الحرب في أوكرانيا يبدو الأقرب إلى التحقق: مرحلة طويلة من الاستنزاف تفرضها حقيقة عجز بوتين عن حسم الأمر وتنفيذ ما جاء لتنفيذه أصلا، أي القضاء على الحكم في كييف وإلحاق الجمهورية «المتمردة» بالمركز في موسكو. وبمعنى آخر، لا يبدو أن الحل العسكري متوافر من قبل الطرفين، لا موسكو قادرة على الذهاب إلى استخدام كل قوتها النارية المدمرة والحارقة لتحقيق مبتغاها، ولا الأوكرانيون قادرون على تحرير مناطقهم المحتلة أو الرد الناري الموازي على ما يصيبهم من دمار وخسائر في مجمل البلاد المنكوبة.

مأزق الروس أكبر وأخطر، لكن خسائر الأوكرانيين أمرّ وأقسى طالما أن الحرب تجري في ديارهم، وتحصد أرواحًا وبنى تحتية بنيت على مدى السنوات وتتبخر راهنا تحت وطأة النيران الهاطلة عليهم «بزخم» ما كان ليخطر في بال أكثر الناس تشاؤمًا منهم.

حصلت الكارثة ودخلت أوكرانيا في أتون لن تخرج منه قريبًا، ولا بالهين ولا حتى بخسارة يمكن تحملها.. قدرها أنها دخلت إلى تاريخها في اللحظة الغلط ونتيجة ما يعتبره عدوها غير المتوقع خطأً إستراتيجيًا كبيرًا..

وأخطر ما في هذه النظرية أن صاحبها بوتين يعود إلى البدايات الأولى، ويطوعها حسب هواه ورؤاه وينسف في سبيل ذلك، أسسا وضعها الرواد البلاشفة الأوائل الذين افترضوا في بداياتهم أيضا أنهم يصححون خطأً ارتكبه القياصرة بحق «الشعوب» والكيانات المجاورة و«الأقليات» المظلومة، وأعطوا ذلك كله عناوين فضفاضة ذات أبعاد تقدمية كانت مألوفة في بدايات القرن العشرين منها «الحق في تقرير المصير» ثم «وحدة» الطبقات الدنيا، العاملة على طول مساحات عملها، أي «فوق» الحدود السيادية التي تحوي دولها و«مصانعها» ومجالات معاناتها الطبقية!.

وتلك ردَة في التاريخ ظن العالم المعاصر أنها صارت من التاريخ وسكنت فيه كدلالة على زمن مضى بعد أن دفعت الناس في أيام معاصرتها لها أغلى الأثمان بسببها، ودخلت البشرية في ضوئها في جحيم حرب عالمية أولى أسست لواحدة ثانية كانت أشدّ منها دمارا وبؤسا.. إلى أن استوت حال الدنيا عند معادلة لم يقبل بها السيد بوتين، أو بالأحرى «نام» على عقيدته تلك فترة من الزمن «وتمسكن حتى تمكن»، أو افترض ذلك ونفذ فرضيته على الأرض بالتدرج المريح، بداية إلى أن اصطدم بالحائط الأوكراني وبدأ ينزف دما ومعنويات وإمكانات وصولا إلى تهديد ما بناه بيديه على مدى العقدين الماضيين!.

وبالتالي بدلا من أن يعيد «أمجاد الإمبراطورية السوفياتية المتشظية» بدوافع ذاتية يكاد أن يدمر «الاتحاد الروسي» ذاته، وحدة كيانية (ربما) ونفوذًا وصيتًا وجبروتًا ووزنًا دوليًا في المحيط الأوروبي القريب، وعلى المستوى الدولي العالمي المأمول من تلك اليقظة القومية الكنسية!. دخلت الروسيا البوتينية هذه في تجربة لم تكن في البال ولا الخاطر، بعد أن أدخلت العالم برمته في تجربة ارتدادية لا يمكن أحد أو عقل تكتي أو إستراتيجي أن يتوقع مآلاتها القريبة أو البعيدة.. سوى الافتراض المنطقي الذي أعلنته لندن في اليومين الماضيين من أن الاستنزاف هو البعد الوحيد الظاهر للعيان وعلى مدى طويل يقاس بالأشهر، وربما بالسنوات.

وكأن أفغانستان التي خرجت من الجيش الأحمر ثم من طالبان ثم من القاعدة ثم من الأمريكيين تعود راهنا لتكون القياس العبثي للتاريخ المستعاد وإن من دون الجغرافيا: فيها تحطم الجيش الأحمر وغرق مع كل صيته وقدراته التي تجمدت في أذهان البشر أينما كانوا، عند لحظة الدخول إلى برلين في الحرب العالمية الثانية ورفع العلم الأحمر فوق مقر الرايخ الثالث!

تلك الصورة تهشمت في آخر مكان ممكن: على أيدي قبائل غارقة في بداياتها من دون أي ملمح حداثة فيما البناء العسكري المؤدلج لذلك الجيش كان يتحضر لمعركة قيامية مع الغرب بكل الته وتقنياته وتطوره وثقافته ونووياته..

ولم يتوقف الاندحار عند حدود الأفغان الجغرافيا والتركيب القبلي والعشائري، بل «دخل» إلى البنيان السوفياتي نفسه! وكأن تلك الإمبراطورية كانت منخورة بالخواء في عظامها، وعند أول هزة جدّية حملها زعيم شاب (نسبيا) أراد تطوير النظام ومحاولة إعادة تركيبه لمواكبة العصر وتقريبه من الأنسنة، وطبائع الخلق وبدايات الحرية بكل ضروبها وأشكالها..

في تلك اللحظة ذاتها انهار البنيان على خوائه وتشظت الإمبراطورية على وسعها وتناثرت «الشعوب السعيدة» باتجاهات أقل سعادة!

وتبين أن الأدلجة المركبة خارج سياقات الخلق وبديهياته لم تكن في الأساس صنوًا أكيدًا أو فعليًا لنظام السوق اقتصاديًا وماليًا والليبرالية سياسيًا والديمقراطية منهجًا هو الأقرب والأكثر حميمية مع طبائع البشر منذ أول الخلق وبداياته!.

وضع الحظ السيء لأوكرانيا الحديثة تجربتها المؤاخية لعموم التجارب المتقدمة في الغرب الأوروبي والأمريكي والشرق الياباني والكوري والآسيوي.. وضعها على تماس مع تلك الردّة الروسية البوتينية بطريقة سيئة سوء الاختيار المصيري بين الحياة والموت..

والأمر صار موازيًا عند العدو المهاجم الغاطس بدوره في حالة صارت مصيرية بدورها: لا إمكانية سهلة أو متوفرة للتراجع عن الأهداف المعلنة «بعد تعديلها»، وتخفيض سقوفها إلى حدود الشرق الأوكراني بدلا من المركز في كييف، جغرافيًا وسياسيًا وكيانيًا وتاريخيًا ووجوديًا، وفي الوقت ذاته وعند المستوى ذاته، لا إمكانية متوفرة لحسم الحرب عسكريًا! بالمعنى المحلي الأوكراني ولا بالمعنى الأوسع طالمًا أن الناتو صار متدخلا عن بعد دعمًا مفتوحًا من دون ضوابط، وطالما أن الغرب الأمريكي والأوروبي صار بدوره جزءًا من الحرب وإن بشكل غير مباشر!

المأزق المتبادل تعمقه تطورات الميدان التي لا تهدأ ولا تتراخى، والطرفان ينخرطان في كل معركة انخراط المصير وبمرارة احتراب الأهل، وهذه الحرب في كل حال فيها الكثير من مقومات الحروب الأهلية، وتكاد تكون بين أبناء عم يعرفون بعضهم البعض بالاسم! وعنوان السكن ومسقط الرأس!

وفي هذه الجزئية «الشاملة» تكمن كل علّة نظرية فلاديمير بوتين، بل في واقع الحال تبدأ منها! وتنطلق من رسوخها في التاريخ السابق على انهيار الإمبراطورية السوفياتية وعلى قيام تلك الإمبراطورية أساسًا على أنقاض البناء القيصري وتمدداته الأوكرانية وغير الأوكرانية!.

على قاعدة حسابية محضة مشتقة من هذه التوليفة التحليلية يمكن الظن الحزين بأن هذه المذبحة ستطول ومعاركها ستزداد شراسة ومرارة ودماء ودمارًا.. استنزاف لا أفق معقولا له!.

* ينشر بالتزامن مع موقع لبنان الكبير.