هل بوادر الحضارة تظهر على شكل عطش شديد لدى أبناء الحضارة الوليدة إلى القراءة في الكتب، وهذا يتقاطع في ذاكرتي ـــ إن لم تخني ـــ مع ما رواه المفكر العربي هشام شرابي عما لاحظه من عطش الصينيين للقراءة في مكتبات أمريكا، وأن الأكاديميين الغربيين يتضايقون ويذكرون بني جلدتهم بأن هؤلاء (الشرق آسيويين) الذين يمكثون بالمكتبة إلى إحدى عشرة ساعة في سبيل البحث بينما الغربي لا يتجاوز ست ساعات سيهزمونهم ولو طال الزمن.

استمعت في لقاء قديم إلى من أسعدني أن يكون مثله حاصل على جائزة الملك فيصل العالمية ــ حصل عليها عام 2007ــ وأعني أستاذ الفلسفة وتاريخ العلوم الأكاديمي المرموق رشدي راشد عندما أشار إشارة ضمنية ــــ أصوغها بعباراتي الخاصة ــــ في أن الغرب يهتم بترجمة كل التراث (الإنساني)، وأن عمل الجامعات الغربية في الترجمة هدفه (خدمة البحث العلمي) وليس (خدمة تضخيم الذات)، وعند سؤاله عن كتب نيوتن القديمة في الرياضيات لماذا لا تترجم إلى العربية أجاب بما معناه: حركة الترجمة تتم وفق الاحتياج النفسي والعلمي لدى الشعوب، والعرب لم يصلوا إلى هذا المستوى من الاهتمامات العلمية البحتة.

بل مما يزيد الوجع وجعاً ما أورده الفيلسوف مراد وهبة في كتابه (جرثومة التخلف) ص 189 من أنه: (في الجامعة العبرية في القدس أنشأ اليهود مركزاً للدراسات الرشدية وأصدروا كتبه في ثلاث لغات: العربية والعبرية والإنجليزية، وفي أوروبا دراسات أكاديمية معمقة تشكل نوعاً من مراجعة جديدة للفلسفة الرشدية التي تنهض على تمجيد العقل وإعلاء شأنه والتوفيق بينه وبين الشريعة).

من شواهد الذات المهزومة (المتضخمة) بالنسبة للمتابع ما يجده في رفوف المكتبات من ترجمات إلى العربية عن الإنجليزية والفرنسية لكتب (التراث العربي)، ولمن لم يفهم نشرح بقول آخر:

إنك تجد كتبا مترجمة لمؤلفين غربيين كتبوا عما وجدوه في كتبنا العربية التراثية، فحتى تراثنا العربي نحتاج إلى عقل غربي يقرؤه لنترجم عنه جهده فيما قرأه بلغتنا، ثم يأتي أكاديمي عربي شاب يملأ وسائل التواصل بنقولاته من هذه الكتب المترجمة عن عظمة حضارتنا العربية الإسلامية كحبوب بنادول عمومية لتخدير الذات.

فإن قال قائل: أريد معنى الحضارة بمثال حقيقي ولا تدخلني في تعريفات لا أول لها ولا آخر؟ ولكي نجيب على هذا السؤال سأروي على لسان زكي نجيب محمود حكاية حصلت له في نهايات الحرب العالمية الثانية وهو في غرفة المكتبة الخاصة بقسم الفلسفة من «الكلية الجامعة» بجامعة لندن.. يقول: (كان الألمان في تلك المرحلة الأخيرة من مراحل الحرب يمطرون بلاد الإنجليز بصفة عامة ويمطرون لندن بصفة خاصة بوابل متلاحق من صواريخ «ف2» فكنا عندئذ لا ندري متى تنزل الصاعقة من سمائها وأين؟ قد تنزل على بعد أمتار منك وأنت نائم في عمق الليل، وأنت على مائدة الطعام، وأنت سائر في الطريق، وأنت تستمع إلى محاضرة، وأنت جالس في المكتبة...

وقد كنت يومها في هذه الحالة الأخيرة ـــ تأمل عزيزي القارئ بقية كلامه التالي عن العرف السائد ـــ وكان العرف السائد بين القوم يحرم على المرء أن يغير من نفسه شيئاً إذا ما سمع دوي الصاروخ على مقربة منه...

فامض في عملك كما كنت قبل أن تسمع: لا كلمة تزيد أو تنقص، لا دهشة، لا طرفة عين!.....) ثم يحكي عن كتاب يقرؤه ويريد التشبع بما فيه إلى أن يقول: (وبينما البصر مثبت على صحفات الكتاب... دوّى الصاروخ على بعد منا لا يزيد على خمسين متراً، إذ نزل على قبة البناء الأوسط، وهو يلي الجناح الذي كان به قسم الفلسفة ومكتبته، نزل على القبة فشطفها وتركها منقورة كأنها قشرة البيض.. لكنني كغيري لم أحول بصري عن وجهته، ولم أسقط القلم من يدي، كأن الصوت الذي صمَّ الآذان لم يكن شيئاً) انتهى كلامه، والمثال الثاني عبارة عن صورة مشهورة ونادرة لرواد مكتبة في لندن (ربما تكون ما ذكره زكي نجيب محمود وعاشه بنفسه) تشاهد في هذه الصورة آثار القصف الحربي الذي لم يمنع رواد المكتبة من القراءة.

هذان المثالان، الأول حكاية عاشها زكي نجيب محمود بنفسه ناقلاً فيها أجواء وثقافة الناس هناك، والثاني صورة متوفرة الآن على النت ولم تعد نادرة، فهل عرفنا معنى (الحضارة)؟

وهل عرفنا لماذا بعض الفلاسفة يعترضون على تسمية الحضارات القديمة بهذا الاسم معتبرينها (ثقافات أو مدنيات) كثقافة فرعونية أو مدنية فرعونية ومثلها الآشورية مروراً بالصينية وصولاً في العصور الوسطى إلى الإسلامية والمسيحية، والسبب أن الحضارة بالمعنى الحديث تجاوزت عقدتها في ظنها بأن هناك (ما لا يمكن معرفته) فما لا تعرفه بشكل تجريبي هي عاجزة عن إدراكه وما تعجز عن إدراكه فهي على الحقيقة (تجهله)، وهنا ومنذ أربعة قرون تقريباً انقطعت علاقة الفيزيقي بالميتافيزيقي، وبقي ارتباط الأرض بالسماء من خلال تلسكوبات ونظريات منها (الانفجار العظيم).

بقيت إشارة ضوء كشمعة صغيرة في بيداء العرب، إنها تشبه شمعة صغيرة جداً وسط ملعب ضخم مغلق ومظلم، إنه كتاب صدر باللغة الفرنسية عام 2015 وفي عام 2017 صدرت طبعته العربية الأولى عن دار الفرقد في دمشق ترجمة الدكتور إياس حسن بعنوان (ثورة في فهم أصول البشر وثقافاتهم/‏بدايات الإنسان والفن والأخلاق والحرب والأسطورة) لأكثر من 25 عالما ومتخصصا في مجالات علمية متعددة، وبتحرير جان فرانسوا دورتيه، بالإضافة إلى جهود مجلة حكمة في ترجمة الأوراق الثقافية من الموسوعات العالمية والمجلات العلمية المحكمة، بالإضافة إلى منصة معنى للنشر والتوزيع في مجلتها المترجمة (الفيلسوف الجديد).

كل هذا يعطي سبباً للتفاؤل وسط بحر متلاطم من مبررات (جلد الذات) التي حولنا (تعصب طائفي، حروب أهلية، ميليشيات خارج إطار الدولة) هذا من جانب، ومن جانب آخر (أطروحات ثقافوية تدافع عن أورام الذات العربية من أي جرَّاح يزيلها وينظف جروحها المليئة بالقيح والصديد).