يحدث أن يخطر في ذهننا سؤال يجر خلفه العديد من الأسئلة كتقويم للذات، لا أدري إن كانت الأسئلة ناتجة من عمق المشكلة أم أن إسرافنا بالتفكير هو بحد ذاته مشكلة، وفي كل نهاية عام من العمل يتكرر السؤال نفسه.

ما المكتسبات الناتجة من منظومة القيم الحاكمة للعمل وما مدى تأثيرها في الموظف؟ فإذا قلنا إن معظم المؤسسات تتشارك لوائحها في بعض القيم (النزاهة والشفافية والإبداع والمبادرة والتكامل والإنجاز)، وأن معظم تلك القيم تنطلق من أمانة موظف كلفته حروبا طاحنة لتحقيقها، وهي نفسها ما سمح لموظف آخر التمظهر بها من باب الترويج الذاتي للوصول لمناصب أعلى، حتى تحولت القيم الحاكمة إلى قيم محكومة إما بموظف نزيه أو بموظف انتهازي يتنزه بها.

هذا التباين وإن كان في أساسه يفترض أن ينبع من الأمانة التي يتحلى بها الموظف أو المسؤول ونشأ عليها ويخاف الله فيها قبل أن يخاف المحاسبة الإدارية، هو موضوع نسبي يختلف من موظف لآخر، ولو سألنا معظم الموظفين عن المنظومة القيمية في جهة عمله لأجاب بعدم اهتمامه بها بالأصل، وهذا «اللا اكتراث» ناتج في الغالب عن أن ارتباط أصل القيم لديه والتي يستمدها بالأصل من الأخلاق، والأخلاق مستمدة من الدين، والمجتمع بمجمله متدين.. يحرم الاختلاس والسرقة والرشوة، وأن الإخلاص هو القيمة العليا لديه.

ومن هنا تبدأ المعضلة التي نمتعض منها استياءً كلما قرأنا أسماء موظفين ومسؤولين في قوائم هيئة الفساد، يستنكر المجتمع بأكمله سوء أفعالهم ذهولًا ودهشة من غياب تلك القيم أثناء تجاوزهم لمسؤولياتهم المؤتمنين عليها.

برأيي أن القيم مقصد نسبي يختلف تطبيقه من شخص لآخر وفق الغايات التي يسعى إليها، وأن العمل لا يستطيع أن يفرض سياسة أخلاقية موحدة على الجميع، لذلك يفضل عليه أن يصعد بعض القيم إلى قائمة «الالتزامات»، ويحاسب عليها جميع الموظفين وفق لوائح قانونية تضبط التجاوزات وتجرم انتهاكات الموظف المسؤول، وتحفظ حق المؤسسات من تجاوزات بعض الموظفين.

بعد ذلك نعود إلى صياغة قيم إدارية «تجّود» العمل وتقضي على اعتناق شعارات وعبارات رمزية أضرت بالعمل أكثر من نفعها له، واستنفع بها الانتهازي حتى وصل إلى مبتغاه.

لا يعني ذلك أن نسقط قيمنا، إنما لابد من ربطها باحتياجاتنا خاصة أننا نمضي في الربع الأول من القرن 21 المتسم بالسرعة وثورة التقنية وما يتحتم لأجله من اكتساب المهارات والانفتاح على العالم.

إن إعادة صياغة القيم الحاكمة في المؤسسات لا يجب أن يتجاهل (الجودة والابتكار والتنافس والمشاركة والإيجابية)، ودورهم في استشراف المستقبل والاستدامة، خاصة أن القيم تتجدد وتتطور بتطور الزمان والمكان كما تتطور الأنظمة والقوانين تبعًا لذلك.

إن الضابط الأخلاقي في أداء العمل حينما يكون نابعًا من اعتناق شعارات وعبارات، قد تتحول وتتطور فيما بعد من عبارات ضابطة إلى عبارات موجهة ومحرضة.

لطالما كان الشعار عقيدة تعتنق ليس لها مبدأ ولا حكمة كـ«الغاية تبرر الوسيلة»، أو «أنا ومن بعدي الطوفان»، وغيرها من الشعارات التي تحول ساحة العمل إلى مسرح تتحاور فيه العبارات والشعارات، كلٌ حسب غايته، حتى تسدل هيئة الفساد الستار وينتهي المشهد بالتشهير في قوائم الفساد..

ومع ترسيخ منظومة قيم فعالة يصادق عليها الموظف وترتبط بأدائه وممارسته، ينتج بعدها بداخله نوع من الرضا الذاتي الذي بدوره يؤثر في إنتاجيته وتفكيره ومستوى الابتكار والإبداع الذي هيأ نفسه له وهيئته له بيئة العمل.