الموقف الذي اتخذه صندوق النقد الدولي الرافض تمويل استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان لم يكن مفاجئا سوى لجهابذة العهد العوني الذين لا يزالون يتذاكون بغباوة طافحة، ويتعاملون مع الكوارث التي أنزلوها بالبلد وكأنها حصلت وتحصل في عالم آخر. أتباع الجماعة العونية - الباسيلية، الذين احتكروا وزارة الطاقة منذ 2009، رفضوا ويرفضون اعتماد السياقات القانونية في إدارة أعمال هذا القطاع الحيوي، وهو ما كان مألوفا في مأثورات المناخات المحلية الفاسدة المعروفة، التي أدت في زبدتها إلى انهيار عميم وغير مسبوق. لكن الشناعة التامة تكمن في أن هؤلاء يفترضون أن الجهات الخارجية الداعمة يمكن أن يتم التعامل معها وكأنها طرف محلي، يؤخذ كما تؤخذ الجماعات السياسية اللبنانية!، وكما درجت عليه الحال!، أي تبادل النهب والسمسرة والمنافع، ثم تبادل تهم المسؤولية عن الفشل والانهيار، ثم إلقاء اللوم على الغير وفق أنشودة «لم يتركونا نعمل» الأثيرة!.

أول شروط صندوق النقد، ومن خلفه كل الدول والجهات المانحة التي أشهرت استعدادها التام لمساعدة لبنان على تدارك نكبته وانكسار مقوماته المالية والاقتصادية، هي، في قصة الكهرباء، تشكيل الهيئة الناظمة للقطاع قبل أي شيء آخر!، والكلام واضح، ولا يحتاج إلى تفسيرات واستطرادات!، والمقصود من ذلك إبعاد الاستثمار السياسي والفسادي عن الإدارة المباشرة، وسلوك مسلك القانون بحذافيره في كل ما يتصل بالقطاع، واعتماد الأطر النظامية الخاضعة لأحكام المحاسبة العمومية في ذلك السياق!.

والواضح تماما من وراء الإصرار على هذا الشرط تحديدا هو القول بأنه لم يعد هناك مجال لتقديم أي أموال دعم دون إشراف تام من الجهة الداعمة!، فلا دول ولا صناديق ولا هيئات دولية مستعدة بعد اليوم لتقديم دولار واحد دون ذلك الشرط!.

الثقة معدومة بالطقم السياسي اللبناني، ولأقطابه أن يستأنفوا هواياتهم كما يشاءون، لكن لعبة الدمج بين المال العام والسلطة انتهت!، وإذا كان العمل السياسي الحزبي والمذهبي والطائفي جزءا من التركيبة الوطنية اللبنانية منذ بدء الكيان، فإن «التمويل» لم يعد كذلك!، لا محليا بعد إفلاس الخزينة العامة، ولا خارجيا بعد اندثار الثقة، واحتراق المراكب، وتبدل الأحوال في كل مكان.

وما لم يستوعبه بعد الفريق العوني في وزارة الطاقة هو أنه لا يستطيع الاستمرار في سلوكياته المعتادة، ولا التذاكي أمام أي جهة مانحة وداعمة، ولا افتعال مهاترات وقحة!، ولا تقديم تبريرات مضحكة مبكية لمنهجه الفاشل والفاسد!، ولا التصرف مع الشروط الموضوعة لتقديم الدعم وكأنها مماحكة سياسية محلية، يمكن فيها استخدام الردح الطائفي أو الشعارات الفارغة من مضمونها، للهرب منها أو تفشيلها!.

والذي ينطبق على وزارة الطاقة العونية ينطبق على غيرها في القطاع العام اللبناني، فالجهات المانحة تضع شروطا إنقاذية شاملة، انطلاقا من شمولية معطى الفساد في التركيبة السياسية والاجتماعية والسلوكية العامة والخاصة، وانطلاقا من فهم تام لكيفية عمل الإدارات الرسمية التي تُجيّر في الدول الفاشلة لأقطاب السلطة، وتصير جزءا من أقطاعاتهم الخاصة!، ولبنان في هذا المقام «رائد» لا نظير له في العالمين!، وليس أمرا عابرا ولا بسيطا وضع أزمته الراهنة على رأس لائحة أسوأ ثلاث أزمات في التاريخ الدولي الحديث!.

«صدمة» صندوق النقد مع قطاع الطاقة كانت سبقتها صدمة أقل وزنا وصيتا مع وزارة النقل، وربما تليها «صدمات» أخرى في قطاعات مختلفة منهارة، وتحتاج إلى دعم عاجل، والبعض في بيروت يتحدث عن ذلك بأبعاد سياسية مريضة من نوع القول إن صندوق النقد والجهات المانحة لا يريدون تقديم أي دعم قبل الانتخابات النيابية منتصف آيار (مايو) المقبل، كي لا يتم استثماره من قِبل أصحاب الشأن المعني بذلك الدعم!، وهذا كذب لا يليق بالخارج العربي والأجنبي مثلما أنه لا يليق بالداخل الوطني، لأن الأمر ببساطة تامة يتصل أولا وأخيرا بتنفيذ الشروط المعلنة قبل الذهاب إلى أي تفسير واستطراد وتذاكٍ.

وما دام ذلك لم يحصل (والهيئة الناظمة في قطاع الطاقة مثال فاقع)، فإن الأموال لن تأتي!، ولن تأتي ولو انقلب عاليها سافلها!، والمسؤولية هنا تقع على روادها المعروفين، وفي قمتهم الجماعة العونية إيّاها!.

ولذلك هناك في بيروت وخارجها من يفترض أن أزمات لبنان في الفترة القصيرة المقبلة ستتصاعد حدتها، ولن تتصاغر، باعتبار التجربة مع العهد العوني لا تقدم أي دليل معاكس!. هذا عهد يعيش في كوكبه الخاص!، ويتمنى في ذروة أحلامه أن يكون لبنان مثل سوريا مثلا، حيث بقي بشار الأسد في مكانه، وراحت سوريا وأهلها إلى الجحيم فعلا وقولا!.

السلطة أهم من الدولة والناس والبنيان في تلك المدرسة!، وانهيار لبنان المنظور والجلي والمكتمل المواصفات يجب ألا يكون سببا «وجيها» لمنع وصول سلسلة توريث الصهر جبران باسيل إلى «خلافة» عمّه ميشال عون في رئاسة الجمهورية!، وليس مهما إن كانت تجربة توريث قيادة التيار السياسي (مثلا وليس حصرا) ماحلة بالتمام والكمال!.

وعليه، فإن الخلاصة الفصيحة تقول إن لا إصلاح مع عون وباسيل، وهذا يعني لا مساعدات خارجية، ولا دعم من أي نوع خلاصي أو جذري أو في سياقات الإنقاذ الشامل المتدرج والمترابط والواضح وضوح أشعة شمس آب اللهاب!.

وبانتظار ذلك، سيتسلى اللبنانيون بهمروجة الانتخابات النيابية قبل أن يستأنفوا التمتع بعدِّ الأيام الفاصلة عن انتهاء العهد العوني، وانطلاق ورشة إصلاحية فعلية، وليست على الطريقة العونية - الباسيلية، ثم الاستعداد للتعايش مع مصطلح جديد، ألا هو «الوصاية المالية الخارجية» على شؤون الدولة، التي يفترض أن تعوض النكبات التي سببتها الوصاية السورية ثم الإيرانية على بلد الأرز!.

* ينشر بالتزامن مع موقع «لبنان الكبير»