أول احتكاك ليّ، أو لنقل معرفة عن التشرد، هو رجل عجوز كان يدعى «ميشو» من قِبل سكان الحي، وكان يعيش في دكان للطباشير. لا أعلم إن كان هو المالك أم لا. كل ما أعرفه أو أتذكره أن هذا الرجل كان يعيش داخل هذا الدكان، وكان يرتدي ملابس رثة لم يغيرها أبدا، وكنت كلما دخلت إلى دكانه أشعر بأنني دخلت حاوية الزبالة من الروائح الكريهة التي كانت تنبعث من حولي، ولكنه كان إنسانا لطيفا، يحب الأطفال، وأحيانا كثيرة يعطينا طباشير ملونة كهدية كلما زرناه. الابتسامة لا تفارق وجهه على الرغم من تكاثر التجاعيد على جبينه ووجنتيه، والبقع البنية والسوداء المنتشرة على يديه ورقبته بسبب عدم الاستحمام.

ثاني احتكاك كان مع رجل عجوز يأتي لنا بالطعام إلى مبنى السكن الداخلي أيام الثلج، حيث لم نكن نستطع الخروج، والذهاب إلى مطعم المدرسة.

كان يرتدي ملابس رثة ممزقة وقديمة، لدرجة أنه لم تتبق مساحة عليها دون رقع ملونة، تخفي ما تمزق منها. أذكر أن يديه كانتا منتفختين ومشققتين، وأحيانا توجد خيوط من الدم الجاف على أصابع كفيه. لم يكن يتحدث أو ينظر إلينا. لم أعرف له صوتا أو حتى أستطيع أن أتذكر ملامح وجهه، لأنه كان ينظر دائما إلى الأسفل بانكسار.

كان كالرجل الآلي يأتي ببطء شديد، يجر عربته التي تحوي الطعام، وعندما يصل إلى المدخل، يفتحها ويفرغ ما فيها، ثم يدير العربة ويرحل بالطريقة نفسها.

أما ثالث احتكاك، فكان هو الصدمة!. خلال أول زيارة ليّ لأمريكا، وفي أثناء تجوالنا بين الولايات بالسيارة دخلنا إلى حدود سان فرانسيسكو، وهناك خرجنا لنتريض قليلا في أحد الشوارع، وإذ برجل عجوز يقترب مني. كل ما رأيته أنه كان قد تعرض للضرب.

وجهه كان ملطخا بالدماء، والكدمات تنتشر على كل جزء من جسده!. تجمدت في مكاني، وأصابتني نوبة بكاء. أما هو، فنظر إليّ مستغربا، ثم أصر على أن أشتري قلما مما كان يحمله في كأس كان يدفعه إلى وجهي، كي أراه!. لم تطل صدمتي، فما رأيته يومها كان مفجعا.

رأيتهم منتشرين في كل مكان، على كل شكل وهيئة ولون. ما دفعني للتحدث عن الموضوع اليوم هو ما رأيته في آخر زيارة ليّ هناك، فطيلة فترة وجودي لم يمر علي أي مشرد، ولكن ما أن ذهبنا إلى منطقة الميناء بمدينة هيوستن، حيث كنا نريد شحن بعض الصناديق بحريا، توقفنا عند مكتب الشحن، لإنزال الصناديق، وكان قد دخل شهر رمضان، وبينما كان العمال مشغولين، وإذ بشاب أسمر البشرة، يرتدي سترة تغطي رأسه، وبنطلونا ممزقا، يبدو عليه المرض والفقر والحاجة، يقترب من أحدهم ويطلب كأس ماء، فأحضر له الرجل الماء، الذي أخذه وبدأ بالسير مبتعدا. هنا أسرعت إليه، وطلبت منه أن ينتظر، وفتحت باب السيارة، وأخرجت ما لدينا من طعام وأعطيته إياه، فأخذه وبدأ يشكرني، فسألته عن اسمه، فأجاب «فاضل»!.

«أنت عربي»؟!، أجاب: «نعم». «من أين»؟. أجابني: «من العراق». «هل أنت صائم»؟.

لا أدري لماذا خطر على بالي هذا السؤال لشاب يبدو عليه الفقر والجوع، وأيضا عدم التركيز!. أجابني: «أنا مريض»!.

هنا بدأت أخرج بعض المال من محفظتي، فناداني أحد الرجال من خلف السيارة، وقال: «لا تعطيه أنه مدمن، وسوف يستخدم المال في شراء المخدرات»!. راقبته وهو يبتعد، وقلبي يعتصر ألما وحزنا وقهرا. هل هذا ما هاجر من أجله؟!، واستدرت إلى الرجل، وقلت: «لماذا لا تساعده؟. إنه مسلم وعربي!». استغرب الرجل وقال ليّ: «لم أكن أعرف»، فقلت له: «هذا لأنك لم تتحدث إليه»!.

غريب كيف أننا نرى ولا نرى!؟.

وفي طريق العودة إلى دالاس، مررنا بجسر تحت أحد الطرق السريعة، وهنا رأيت مشهدا ما زال محفورا في ذاكرتي!.

في بادئ الأمر شاهدت جزءا من جسد، وكأن صاحبه يقضي حاجته خلف الحائط، وما أن اقتربت السيارة أكثر حتى ظهرت ليّ امرأة في مقتبل العمر.. سوداء البشرة.. عارية تماما!.

وقفت تنظر إلى السيارات التي كانت تعبر أمامها في شرود.. أكان تحديا؟.

لا أدري!، ثم دخلت خيمة بلاستيكية تكاد تسع شخصا واحدا فقط، وما أن أفقت من الصدمة حتى شهقت من الدهشة!، وطلبت من ولدي أن يوقف السيارة، حتى أعطيها معطفي، كي تستر به نفسها، ولكننا كنا في الخط السريع، ولا نستطيع أن نتوقف، وحتى إن أردنا الاستدارة والعودة كان من المستحيل أن نصف السيارة إلى جانبها!. أكملنا الطريق، ودخلنا مناطق يصعب على الإنسان وصف الوجوه التي كانت تجلس أمام المنازل فيها، إن كان يمكن أن نطلق عليها منازل.

فقر مدقع!. كانوا ينظرون إلينا وكأننا أعداء!.

في سفرتي هذه عايشت الرقي في التعامل، وطيبة الناس في مدينة «بلينو» بتكساس، حيث كانوا يلقون عليك التحية بابتسامة أينما ذهبت. حتى المركز الإسلامي عندما دخلت إلى موقعهم في المدينة، وجدت أنهم لا يساعدون المسلمين فقط، بل كل المحتاجين في المنطقة بغض النظر عن الدين أو الملة أو العرق، ولديهم برامج تدريبية مجانية لكل من يريد أن يسجل، لينمي ويطور مهاراته في مجالات عدة يتطلبها سوق العمل، ولكني لم أذهب إلى المناطق الفقيرة، ولهذا لم أشعر بالصدمة حتى ذهابي إلى هيوستن!.

ومن منا يفكر أن يفعل ذلك خلال السفر؟!.

الفقر والعوز والحرمان أمور موجودة ليس عندهم فقط، بل حول العالم، ولكن لا نراها حتى ننزل من أبراجنا العاجية!، فنحن نعيش في قواقع تحمينا، نعيش في عالم نحدد نحن معالمه وحدوده، فلا نرى ولا ندرك حجم فظاعة المأساة التي يعيشها هؤلاء البشر إلا صدفة!.

الحمد لله أنه في بلادي لم تصل ظاهرة التشرد إلينا، فنحن في بلد إسلامي بقيادة وشعب يخاف الله، ويعمل جاهدا على مساعدة الآخرين.

هل يوجد فقر؟ نعم، ولكن أصحاب الأيادي البيضاء، من الذين أنعم الله عليهم بالبصيرة والقدرة على المساعدة، كثر، ولله الحمد على نعمة الأمن والأمان.

هل هذا يعني أنه في أمريكا لا يوجد أصحاب أيادي بيضاء؟ كلا، بل هم كثر أيضا، ولكن المتشردين أكثر، ويتكاثرون يوميا، هذا عدا عن انخفاض الأمن والأمان!.

كان الله في عون الجميع.