حتى لا يستأثر الأغنياء وحدهم بالقرار السياسي كان لا بد من أن تغدو السياسة مهنة، لا يستطيع التكسب منها إلا من يمارسها. ولكن مع مخاطرة الانقطاع عن الناخبين. كل عمل يستحق أجرا... باستثناء العمل السياسي. ومنذ امتزجت الديموقراطية عمليا مع النظام التمثيلي، أصبح الشك يحوم حول العلاقة بين المنتخبين والناخبين: بمعنى هل يمكن لأولئك أن يمثلوا هؤلاء بشكل صحيح إذا كانوا يستفيدون من تمثيلهم هذا؟

في عام 1789، لم يخطط مندوبو المجالس التمثيلية لإقامة طويلة بعيدا عن مناطقهم. وإذ تكاثرت عليهم النفقات في فرساي، حيث استغل أصحاب المنازل الفرصة، واضطروا للبقاء في باريس بعد أن تحولت المجالس التمثيلية إلى "جمعية تأسيسية"، وجدوا أنفسهم في وضع مالي حرج، بعيدا عن بيوتهم وعائلاتهم. هكذا، صوت البرلمان، منذ الأول من سبتمبر 1789، على تعويضات برلمانية، من بعدها، فرضت شروط النظام الانتخابي الانتقائي بمعنى استيفاء الناخب كما المرشح لضريبة محددة؛ وبالتالي افترضت تمتعه بالرفاه المادي، وهذا ما ألغى فكرة التعويض عليه أثناء ولايته التمثيلية. واستمر العمل بهذا المبدأ حتى بدايات الانتخاب الشعبي العام.

في النهاية، أرست جميع الأنظمة السياسية مبدأ التعويضات البرلمانية؛ وفلسفتها أن الولاية السياسية ليست عملا، بل إنها تستحق تعويضا ماليا. وعلى الرغم من هذا المنطق البسيط، لم يتم القبول بسهولة بهذا الإجراء. فالجمهورية الفرنسية الثانية، التي حددت مباشرة التعويض اليومي للنائب بـ 25 فرنكا، أثارت معارضة مناهضة للبرلمان. ولم تحل المشكلة أيضا مع الإمبراطورية الثانية، التي ألغت التعويضات ثم أعادتها لصالح مجلسها التشريعي. ولردح طويل من الزمن، بقي تعويض الـ25 فرنكا يوميا، والذي تحول عام 1871 إلى 9 آلاف فرنك سنويا، وكان حينها مبعث عداوة تجاه النواب. إلى درجة وجب معها انتظار العام 1906، ووصول مجلس ذي أصول أكثر شعبية مع "كتلة اليسار"، لرفع هذا التعويض إلى 15 ألف فرنك. هنا أيضا، جرت محاولة لتمرير التعديل خلسة، مما أطلق حينها حملة استنكار واسعة. كان المطلوب بالتالي ابتداع آلية أخرى للتوفيق بين التعويض وارتفاع الأسعار. فتمّ ربط التعويض البرلماني، عام 1938، بمرتبات الوظائف العامة العليا، مما يؤمن لهذا التعويض الزيادات الدورية، دون اضطرار البرلمان للتصويت عليها.

في خاتمة هذا التاريخ المضطرِب، تمّ التوافق على القبول بمبدأ تعويض الولايات النيابية، إلى درجة أنه كتب حينها الحقوق التي لا تتوسع في الموضوع، تجعل من هذا التعويض مبدأً ديموقراطيا. صحيح أنه يجب منح النائب حريته، لكن تجاه من؟ طرح الموضوع داخل الأحزاب الاشتراكية، حيث لم ترق للمناضلين فكرة التعويض الشرعي الذي يتقاضاه ممثلوهم. خصوصا في بلدان مثل بريطانيا، حيث اهتمت الأحزاب بحاجاتهم المادية قبل أن تعمد الدولة إلى ذلك.

اليوم لم تعُد المسألة مطروحة من هذا المنظور. فالترشيح الحزبي بات الشرط الملزم لإعادة انتخاب النواب. وتفرض هذه التبعية انضباطا صارما، يرغم النواب على التصويت مع الحكومة أو مع كتلتهم النيابية.

هكذا يتبين بشكل أفضل، كيف تنجم توترات جديدة عن مؤسسة تم التوافق على ضرورتها. وبالمناسبة، لا شك أن التعويضات النيابية قد ساهمت في "الدمقرطة" الاجتماعية لممثلي الشعب، لكنها ساهمت أيضا في تحويل الانتداب التمثيلي نوعا من الاحتراف. فالسياسة قد تحولت إلى مهنة، في الواقع ومن خلال مسار طويل بدأ في القرن التاسع عشر. إذ لم يكن جورج كليمنصو، المهزوم عام 1983، قادرا بالضرورة على استئناف حياته المهنية كطبيب. نفهم بالتالي الموقع المتعاظم للموظفين الحكوميين في برلمانات ما بعد الحرب العالمية الثانية (بعد أن كان الجمع بين الوظيفة والنيابة محظورا في السابق)، كون عودتهم إلى وظائفهم تضمن لهم وضعهم المادي في مواجهة احتمالات الهزيمة الانتخابية.

الفكرة عادية لكنها تنطبق هنا على السياسة: إذا كنت مهددا بالبطالة، فسوف تتردد قبل الإقدام على المخاطرة في السياسة. ولتفادي هذه الحال المؤلمة، يمكن القيام ببعض التنازلات والتضحيات من باب الانضباط. وقد تطور هذا السلوك حتى أيامنا هذه، حيث لم يعد للمسؤولين السياسيين من مهنة أخرى غير السياسة، فنجدهم ينتقلون من منصب مساعد نائب مثلا إلى تمثيل إحدى الدوائر وإعادة تمثيلها دون انقطاع. وبعضهم لم يمارس مهنة أخرى إلا كواجهة. عدا الموظفين الكبار الذين يمضون مسيرتهم بين مواقعهم الإدارية ومكاتب الوزراء.

على الأرجح إن هذه المسارات السياسية لا تتميز فقط بالسلبيات، كونها تؤمن للمنتخبين المؤهلات والمعارف، لكن السييء هو في الابتعاد الذي يقوم بين مهنة (لها بالطبع مصالحها وعاداتها وعلاقاتها) وبين الناخبين المفترض بها تمثيلهم. فهل في ذلك تفسير لانخفاض الفروقات الأيديولوجية بين الأحزاب السياسية؟ فالتنازع بين "العيش من" و"العيش من أجل" السياسة، ما زال أقوى مما يبدو عليه التوافق الظاهر حول قواعد اللعبة الديموقراطية في كافة بلدان العالم.