لم يكن من بديل عن الاستنفار الغربي الشامل في وجه فلاديمير بوتين جراء غزوه أوكرانيا، التراخي لم يكن وليس واردا في حسابات أي سلطة ديموقراطية أوروبية أو أمريكية. وإظهار التردد أو الميوعة في المواقف، أيضا لم ولن يكون خيارا صحيحا أو ممكنا أو قابلا للاستخدام المناور إزاء الزلزال الحاصل. سوء تقدير بوتين لكيفية مواجهة الغرب له على محاولته تعديل الخرائط السيادية، كان ولا يزال العامل المركزي الذي ولّد سلسلة من العوامل المدمّرة له أكثر من تدميرها لضحيته! وغرابة هذا المعطى تبدو عصية على الاستيعاب: كيف يمكن لرئيس دولة شبه عظمى (أقلّه بالمعنى النووي!!) أن يكون على هذا القدر من الضحالة الإستراتيجية! وكيف يمكن أن يكون قصير النظر إلى حد أنه لم يرَ في مرمى نظره خطورة ما اقترفه. ثم عدم توقعه استحالة السكوت أو التراجع أمامه. ثم افتراضه المراهق أن تسيير جيوشه باتجاه دولة أوروبية كاملة السيادة يمكن أن يوازي تحطيمه جمهورية الشيشان (الداخلية بالمفهوم الجغرافي الروسي) أو اقتطاعه جزءا من جمهورية جورجيا الفتية، أو «استعادته» القرم إلى السيادة الروسية..أو ذهابه إلى سورية لإكمال نكبتها بالنيابة عن عالم أرعن لا يقيم وزنا لمنطق حقوق الإنسان إلا وفق قياساته العنصرية والمصلحية المباشرة!

ضحالة حسابات بوتين تشبه تلك التي «تميّز» بها صدام حسين ! سوى أنه في دولة مركزية كبرى وأساسية ووريثة إمبراطورية حكمت نصف أوروبا ووصلت إلى الفضاء وتمتلك إنجازات علمية في كل القطاعات، العسكرية منها والمدنية، ويُفترض أن تكون آليات الحكم والسيطرة فيها أرقى وأدق وأعقد من تلك التي كانت في عراق البعث العشائري الصدامي. أو سورية العائلة (الطائفة) الأسدية.

أو كوريا الفريدة في تأليه قادتها على وقع نظرية الإلحاد الماركسية! أو كوبا النائية التي لم يجد قائدها كاسترو بعد خمسين عاما من حكمه سوى توريث شقيقه قيادة الدولة والثورة والأمة والحزب والنضال المستدام ضد الإمبريالية باعتبارها أعلى مراحل تطور الرأسمالية.

المنطق السليم يفترض أن روسيا ليست كذلك! وأنها لا يمكن إلا أن تخضع لآليات منضبطة وفق سياقات مترابطة، وتحديدا لأنها على ذلك القدر من التطور العسكري والتسليح النووي والثروات الطبيعية التي تجعلها جزءا محوريا تلقائيا من نظام السوق المفتوحة عالميا وخصوصا في قطاعي النفط والغاز! ...

وهي عندما كانت عاصمة المحور الاشتراكي ومحكومة بوحدانية حزبية مقفلة ومغلقة ومقننة لكل معطى يتصل بالبشر والسلطة، وتعطي الأمين العام للحزب صلاحيات كثيرة وخطيرة، ومنخرطة في صدام أيديولوجي على وسع مساحة الأرض..

عندما كانت كذلك، خضعت آليات صنع القرارت الكبرى والمصيرية فيها لشبكة من التعقيدات والتركيبات والتحليلات والمعلومات والترتيبات الحزبية والسلطوية، بما يضمن عدم الغوص في محنة قرار فرد واحد يمكن أن تودي بالجميع في ستين داهية سوداء مثل التي أوصل بوتين إليها روسيا اليوم! ويكاد أن يوصل العالم كله معه إلى ما هو أدهى!

وعلى الهامش: في قصة الغاز الروسي إلى أوروبا فصل لا يقلّ تشويقا..أولا كيف تغافلت العقول الإستراتيجية الكبرى في القارة القديمة والولايات المتحدة عن كوامن الخطر المتأتية من الاعتماد إلى ذلك الحد على وارداتها لهذه الطاقة المصيرية من جهة واحدة هي روسيا بوتين!؟ وكيف لم توضع في الحسبان خيارات بديلة تبعا للاحتمالات السيئة والواردة ...والتي وردت أخيرا!؟ وكيف لها ألا تتنبه لمسار الشخصية الكامشة بالقرار في الكرملين، ورؤاه الإحيائية التي كانت تحكم حراكه على مدى سنوات طويلة! وكيف لم تتحسب لمعنى سعيه إلى إعادة بناء الإمبراطورية الموؤودة وهو الذي أعلن بنفسه مرارا وتكرارا أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر خطأ إستراتيجي وأكبر كارثة أصابت روسيا!؟

وثانيا، على الجانب الآخر: كيف يمكن لبوتين أن يتذاكى إلى هذا الحد إزاء حقيقة عدم إدخال صادرات الغاز في نظام العقوبات الغربية على روسيا راهنا. وأن يتشاوف بقرار استخدام الروبل بدلا من الدولار الأمريكي للدفع، وما عناه ذلك من ارتفاع في سعر العملة الروسية نتيجة ازدياد الطلب عليها من مستوردي الغاز الأوروبيين !؟

ألا يرى مثلا أن هؤلاء المستوردين وضعوا خططا بديلة لتأمين الغاز من مصادر غير روسية، وأن ذلك يفترض ألا يأخذ وقتا طويلا (بعضها أواخر هذا العام وبعضها بعد سنتين أو أكثر قليلا)، وأن ذلك سيعني كارثة كبرى بالنسبة إلى موسكو ...كبرى وكاسحة ومعها سيصبح الروبل شقيقا وُلِدَ متأخرا، للعملات «المحظوظة» من البوليفار الفنزويلي إلى الليرة السورية والتومان الإيراني إلى الليرة اللبنانية..الخ!؟

لكن ربما في ذلك بعض العزاء المطلوب بحرارة: خنق روسيا بالعقوبات سيكون أمرا حتميا. غير أن السؤال المحوري هو عن ما بعد ذلك؟ وهل يمكن الاطمئنان إلى ردة فعل ساكن الكرملين حينها بعد إعطائه ورقة الحصار لبيعها لعموم الروس و«تأكيد» نظريته القائلة بأن الغرب يريد تدمير بلادهم فعليا! وهل يستطيع صناع القرار في الغرب تقديم جواب حاسم على هذا السؤال، وهم الذين فشلوا أصلًا وأولا في قراءة بوتين وتوقع خطواته إلى أن وقعت الواقعة؟

خطايا بوتين صارت ملموسة، لكن خطايا مواجهته ووضعه عند حدّه لا تزال ملتبسة وضبابية برغم أنها موجودة! والمقصود في ذلك هو أن الغرب المستنفر حتى النخاع يجب أن يبقى مستنفرا حتى النخاع.. وأن يحرص على إفشال بوتين وإحباط أهدافه في أوكرانيًا وبعدها. لكن ذلك شيء، وكسر روسيا التاريخية شيء آخر!

روسيا ليست بوتين ولا طقمه المعاون له. والعكس صحيح.

والفصل بين الأمرين مهمة تقع على عاتق العقول الإستراتيجية الفحلة في الغرب..وليس على عقلي البسيط! والسلام.

* ينشر بالتزامن مع موقع لبنان الكبير