المستشفى هو العالم الذي يحتوي كل القصص، فمنه يبدأ الإنسان وفيه غالبًا ينتهي، وما بين صرخة الوليد وعويل النائحات هناك قصص، لا تكفي ليالي شهرزاد الألف لسردها، كأسطورة يجمع الكل على معرفتها، لكن لا أحد يعلمها علم اليقين، الذين يعرفونها هم فقط الذين عبروا بوابتها، وناموا على أسرتها، وأمضوا الليل في أجنحتها، الكل اتفق على عدم محبتها، إلا من بشرى مُنتظرة، وغير ذلك فبئس الدار هي!.

أما من يعمل فيها فعليه أن يجعلها مكانًا أفضل، فليس هناك أسوأ من أن تترك ما تحب إلى ما لا تحب، وما تألفه إلى ما تُنكره، المرض وحده يجبر على كل هذا؛ ولأن العاملين في المستشفيات يدركون أن مكانهم ليس بالمكان المفضل، وأنهم ليسوا بالبديل المرغوب دائمًا، فيبذلون كل جهدهم لإكساب المكان الروح التي تضفي على نزلائه الطمأنينة لتبديد غربتهم وأوجاعهم.

المرض بحد ذاته غربة، فكل ما تنكره النفس غربة، ولا شيء تنكره النفس قدر المرض، ولأن المرض هو زائر يأتي دائمًا بلا موعد، ولا إذن مسبق، يتوجب على الأطباء ومساعديهم الوجود في كل وقت في المستشفى، لا يهم ليل أو نهار، عيد أو صيام، لأنه لا يوجد في قاموس الممارس الصحي ساعة متفق عليها، فعليه أن يكون مُتاحا ما دام في الخدمة، أكثر الساعات رعبًا هي ساعة المغرب في شهر رمضان، يعني ذلك أن الحالة خطيرة وإلا لم تكن لتحضر في هذا الوقت، وأكثر الحالات خطورة هي تلك التي تأتي ساعات الفجر، وما بين غيبوبة سكر أو حادث طريق أو طفل يعاني من ضيق تنفس أو مرض مزمن، وأعظمها أن تحمل بشرى ولادة طفل.

هل تعرف معنى قضاء ليلة العيد في المستشفى، وأنت تسمع الآخرين يرددون أغنية أم كلثوم «يا ليلة العيد آنستينا... وجددتي الأمل فينا»؟ معناه أنك لست جزءًا من هذا الحدث، كمريض أو ممارس صحي.

في صباح العيد وتلفازات غرف المرضى في المستشفى تذيع أغنية «العيد فرحة.. وأجمل فرحة.. تجمع شمل قريب وبعيد»، تدرك أن الدنيا عيد فعلاً، بغض النظر عن المكان والظروف؛ لأن العيد جزء من عمر الإنسان عليه أن يستثمره في الفرح، أو يحاول أن يفعل ذلك، الأطفال في المستشفيات أثناء العيد يشعرون بالعيد وإن كان عيدًا مختلفًا لا يشبه عيد أصدقائهم، عيد فيه رائحة الأدوية والمحاليل، عيد فيه أطباء وممرضون، البالونات الملونة وزينة العيد تملأ الممرات؛ لعلها تضفي شيئًا من البهجة، وأطباء الأطفال الطيبين الذين يلبسون لبس المهرجين ويجلبون معهم الحلويات والهدايا ويقصون القصص، هم يخرجون من جلباب الطبيب إلى قلبه وحكمته وإنسانيته.. وفي صباح اليوم التالي يعود إلى جلبابه.

أجمل ما في الأطفال أنهم يتسعون لكل ذلك، يضحكون ويلعبون وإن كانوا مرضى، فالطفولة هي أنك تعيش اللحظة دون التفكير في اللحظة التي تليها، عش الحدث دون ربطه بأي أحداث أخرى لذلك يجدون المتعة، المرضى في الأقسام الأخرى توزع عليهم الهدايا، ويتم تهنئتهم بالعيد من قبل العاملين، ولكن ما تراه في عيون الصغار لا يمكن رؤيته في عيونهم، فالإدراك يجعل التأقلم مع الحدث أكثر صعوبة، لذلك المهمة الأصعب تقع على العاملين في أقسام تنويم الكبار، حيث لن يضحكهم مهرج ولن تُنسيهم حلوى، وبالرغم من هذا يمر العيد في المستشفى بكل قصصه وتفاصيله وفعالياته، والكل يردد من العايدين ومن الفايزين، ولا بأس وطهور وفترة وتعدي.