في كل وقت من كل عام تمر المواسم التي تُبرز ركنًا من أركان الإسلام التي شُرعت يقينًا، لا محيد عن القول والعمل به إلا لمن كان له عذر، والأعذار باب واسع يدل دلالة واضحة على سمو مقاصد الشريعة الإسلامية وعلو كعبها على غيرها بإرادة إلهية، ومن تلك المواسم الصوم والحج والزكاة والصلاة بأركانها وواجباتها وفروضها وسننها.

ومع كل موسم من تلك المواسم تبرز كثير من مسائل تلك العبادات التي تتخلل أوقات تلك المواسم، وتلك المسائل تتعلق بعبادات المواسم وهي مسائل لم يُتفق عليها في الأصل بين الفقهاء بل هي مسائل مختلف فيها عند أصحاب المذاهب الفقهية القديمة ومدارسها المتعددة في الاستدلال والفهم والتأويل.

ومن أبرز تلك المسائل الخلافية التي دائمًا ما تكون موسمية وتتكرر بتكرار ركن من أركان الإسلام أَلاَ وهي تتعلق بالصوم ومن مكملاته وهي مسألة القول بإخراج زكاة الفطر نقدًا بدلًا من إخراجها طعامًا، أو عدم التقيد بحرفية النص الوارد في زكاة الفطر، حيث ورد حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه والذي جاء فيه (كنا نخرج زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من إقط)، فقد فهم بعض العلماء أن تعيين الشارع لهذه الأصناف أمر لا اجتهاد فيه وتمسكوا بظاهرية هم انتقدوها على الإمام الفقيه الظاهري أبومحمد بن حزم وهذا من مفارقات الفقهاء، وهذه حرفية نصية تطرح كل مقاصد الشريعة وتهمل قواعد الفقه، وهذه الحرفية النصية هي سبب حقيقي في الانحرافات الفكرية المستمدة من أصل الانحراف الفقهي المتقيد بالشكلانية الحرفية النصية.

بينما فهم آخرون أنها كانت غالب قوت أهل البلد وأجازوا إخراج غيرها ويقولون بجواز إخراج زكاة الفطر من النقد بدلًا من الطعام، وذلك أن الأطعمة أصبحت شائعةً في بعض المدن والدول الغنية مما يجعل الفقراء والمساكين يبحثون عما يسد حاجات أخرى لا تنقطع، إضافة إلى أن بعض الأطعمة التي تخرج كزكاة للفطر في بعض البلدان أصبحت سلعة بخسة في يد التجار الذين يعيدونها إلى مخازنهم بعد شرائها من الفقراء بأرخص الأسعار فتعود الفائدة الأكثر من الزكاة على التجار لا على الفقراء، وهذ يعود بالنقض والإبطال لعلة ومقصد، وإرادة التشريع من فرض وجوب زكاة الفطر التي هي في حقيقتها تملك للفقراء، ومن القرائن التي يستند إليها القائلون بجواز إخراج زكاة الفطر نقدًا، أنها تشترك مع جميع الصدقات في التطهير والإغناء وتختلف في التوقيت ودرجة الحكم، وأن مشكلة الفقراء في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مشكلة طعام في زمن تقل فيه الدراهم والملابس والأنعام، ولو ذهب عليه الصلاة والسلام إلى غير الطعام لكان لذلك مشقة عظيمة على المسلمين، فليس كلهم يملك فائضًا من اللباس أو الدراهم أو الأنعام.

لكن حاجات فقراء ومساكين اليوم ازدادت وتنوعت ولم تعد طعامًا فقط بل شملت الملابس والدواء والإيجارات وغيرها.

كما يستندون أيضًا إلى جواز أخذ البدل في زكاة المال عند بعض الفقهاء، ويقيسون زكاة الفطر بها، فهذه المسألة المتعلقة بأصل فرض الصوم هي عبادة ظاهرية، ومع ذلك لها تأثير في ذوات وأرواح من يبذلها ويتلبس بها، وهذا يدل على أن العبادات الموسمية لها مقاصد كبرى ظاهرية يمكن أن تُرى بالعين المجردة، وهناك مقاصد كبرى إلا أنها خفية تبقى في علم غيب رب العالمين وهي قلوب العباد التي هي المقصد الأسمى من التشريعات كلها.

فالمراد والمقصد من هذه العبادات التي فيها منع ورقابة ذاتية صارمة على النفس وتصرفاتها أن تتطهر هذه الروح والذات الإنسانية من أدران الأمراض الداخلية من الكراهية والحسد والحقد، وجعل هذه الروح والذات الإنسانية تتخطى كل عقبات وعوائق مسارات وطرق الشر المضرة بالأرواح والذوات الإنسانية خارج إطار تلك الروح والذات الإنسانية التي قامت بتلك العبادة وانغمست فيها ظاهرًا وباطنًا، فإذا تحقق المقصد والغرض من فعل وإخراج هذه العبادة فإن ذلك مؤشر واضح وبين أن تلك النفس الإنسانية على المسار الصحيح في طريقها إلى الوصول إلى بارئها ومبدعها، وأنها قد عانقت سعادة سرمدية يبحث عنها كل بني البشر في كل أنحاء وأرجاء هذه الدنيا منذ خلق الله هذه الدنيا ومن عليها، أما إذا لم يتحقق ذلك الغرض والمقصد من العبادة فإن ذلك التعب والإنهاك الجسدي لم يعد على تلك الروح والذات الإنسانية بأي شيء من مرادات ومقاصد البارئ الخالق المصور لهذا الإنسان وروحه السامية في أصل خلقته وفطرتها.

فتقع هذه الروح الخاوية من رصيد التقوى في كل أشكال الظلم وما نهى عنه الخالق وهي تحسب أنها تُحسن صنعًا (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا).

لذا فإننا نجد في حياتنا المعاصرة كثيرًا ممن يمارس طقوس العبادات بكل أشكالها وأنواعها، بيد أننا لا نجد أي أثر لتلك العبادات والطقوس الإيمانية على تصرفاته، بل نجد أنه يظلم ويغش ويدلس ويحيك المؤامرات للحصول على حطام هذه الدنيا دون أن يرف له أي طرف، علمًا أنه لا يفارق صلاة ولا عبادة ولا موسمًا إلا وهو يتقدم المشاركين فيها، إلا أن أفعاله تدلنا على أن تلك الممارسات ما هي إلا عادات شكلية تمرست بها تلك النفوس دون أن تنفذ إليها مقاصد وأغراض خالق تلك العبادات والطقوس. وتلك أنفس مريضة لا تكاد تُتنج شيئًا مفيدًا لمجتمعها بل هي كلٌ على مجتمعاتها أينما توجهها لا تأتي بخير، بل إنها إلى إحداث وخلق الشر أقرب منها للخير.

وقصارى القول فيها أن مجتمعاتنا إن لم تتخلص من هذه الأنفس والأرواح المريضة، وتأخذ على يدها فإنها تكاد تُغرق المجتمع بشرورها.