شاعَ في منهجِ الحديثِ وتأصيلِ طرقه أن يُقال: «فلان جاوز القنطرة»، ومن ذلك قولهم: «فرجال الصحيحين قد جاوزوا القنطرة».

والمراد بالصحيحين: البخاري ومسلم. والقنطرة -هنا- هي الجسر؛ أي أنَّ رجال الصحيحين انتقلوا إلى الضفةِ المقابلة، لهذا فإنَّ المحدّثين وضعوا عُلوًّا في الإسناد -وهو قلة الرواة- وعُلوًا في الصفة. وتجاوز القنطرة من عُلُوِّ الصِفة، أي أنَّ ثمةَ رواةً -بقوةِ سُلطة الجماعة- وصلوا إلى مكانٍ لا يملك الفردُ أن يُغيّر الحكمَ عليهم؛ إذ إنَّ هذه الطريقة تَسُدُّ منافذ التفكير في العِلل الخاضعةِ لسُلطةِ الواقعِ، وتطبيقها على هؤلاءِ الأشخاص، ومن ثمَّ يَسلم النسقُ الديني من اختراقه.

هذه الطريقة استخدمها الحزبُ الحَديثيُّ؛ ليضرب النقد بمطرقته، ويُرهب النُقّاد، من أن يمسُّوا رموزَ الإسناد.

فيأتي سؤالٌ هنا: ما مدى تأثير هذه القنطرة على المجالات الأخرى؟ هل للمفاهيم الاجتماعية التقليدية -وهي تتقاطع مع التغيرات الحديثة- قنطرتها؟ وهل التشكلات الثقافية -بشمولية تعريفها- تُفكِّر بمنظارِ القنطرة؟

إذ عندما تُسيطر على الفكر شروطٌ، قوامها: بناء إنتيليجنسيا، هدفها النضال المتكتّل نحو بناء مجتمع أو نظام؛ فإنَّ الفردَ لا يستطيع أن يتكلم عن وجود حرية نقدية بالمعنى المتجاوز للسرديات الكبرى؛ إذ إنَّ شرطَهم الأساس عائقٌ عن التفكير في تجاوز هذه المحنة الذاتية، وأقول الذاتية -هنا- لأعني أولئك الذين يحاربون من أجلِ تاريخٍ جماعي يُعيد تاريخَ الغرب، وينطلق من أساساته إلى تاريخٍ مُغايرٍ عنه، أو مُشَابهٍ له، لكن بصفةٍ قومية، أو أولئك الذي يُحاربون من أجلِ تاريخٍ جماعي مُحدّثٍ -بشروط جغرافيتِهم- بناءً على المعطيات في النظام العالمي، أو بناء على معطيات النظرية الشيوعية، أو أولئك الذين يريدون إعادةَ وصلِ الحبلِ التاريخي مع آخِرِ عالم إسلامي أو فيلسوفٍ قبل عصر النهضة الأوربية ومن ثمَّ بناء المجتمع... إلخ. فهنا يأتي مفهومُ القنطرة، وتساؤلاته؛ بصفته كاشِفًا عن نسقيةِ التكتل السلطوي عند المفكر، أو الناقد، أو السياسي، أو المثقف بشكل عام.

وقد تكون نسقية محافظة تَتعدَّى إلى سُلطةٍ تحاول الذودَ عن حياضِ رؤيتها وثوريتها، وآرائها المجتمعية سواءً أكانت دينية أم غير ذلك.

إذ نلحظ أنَّ المثقف يسعى بجهدٍ لوضع مقياسٍ للنظر؛ يُسَبِّقُه بنقدٍ للتفكير السابق عليه؛ بكونه تَفكيرًا مُتَخلّفًا، ومن ثم يصدر أحكامه على الماضي، وأحكامه التبشيرية على المستقبل. وفي أحكامه يَظْهَر مفهومُ القنطرة فيما قِيلَ وما لم يُقَل؛ إذ بغيره يكون نَسقه مُهَددًا بالاختراق، فلا يستقيم له الحديث. ومع أنَّه مُعاصرٌ لزمن الما بعد، إلا أنَّ أحكامَه النظرية نسقيةٌ كبرى، وتطبيقاته غَضبٌ على الحياة المعاصرة المنفلتة من قبضة النهضة، وصِحّة التبشيرات في التاريخ الماضي.

وهنا يحضر -أولا- الحذر النقدي للفرد؛ بحيث يُراقب مواقفَه تجاه الحياة، وتَشَكُّلات خبرته...؛ من أين تنبثق أحكامه وانفعالاته ونزعاته في التأييد والرفض، والنقد والتحليل، وأين مكانه في إرادةِ السُلطة، وبنائها...؟

وإلى أي مدى هو مُلتفُّ حول قنطرة نظريةٍ صُنعت على عينِ اليقين؛ إذ للقنطرةِ محتوياتها التي تُلغي وتقبل بناءً على مُعطيات مُسبقة راسخة، حتى وإن لم تَطْفُ على الماءِ.

إنها صندوقٌ، به تُفرز الأسماء. والأسماء -هنا- تأخذ معنى القوانين -النظرية والعملية- التي تُوضع لحماية النسق؛ إذ إنَّ حماية البخاري ومسلم لم تكن لذاتهما، بل لحمايةِ النسقِ من الاختراقِ، لنتأمل -مثلًا- قولَ إمام عبدالفتاح عن ميشيل فوكو في سياقِ ازدراءٍ وطرد، بأنّه «يتعاطى المخدرات، ويَزرعها بين زهورِ بيته، ويمارس اللواط، ويفضح سمعة الفلسفة، ويصل بها إلى الوحل»، وقوله: «أما في باريس فقد كان سلوكه أسوأ، فهو في بداية عام 1971 يُؤَسِس جبهة الشواذ للعمل الثوري».

إننا أمامَ قشرةٍ نقديةٍ يخطُّها قلمُ إمام عبدالفتاح، هذا الذي انتمى لهيجل تَدريسًا وتَطويعًا، حتى حَوّلَ العقلَ الكلي، إلى صُندوقِ قنطرةٍ يحتوي على الروحِ المطلقة بعد أن فُتِتَت إلى قِيَمٍ دينية أُخذت من قنطرةِ الصحيحين، وهي تتفاعل مع المجتمع الذي عاش فيه؛ وكأنَّه تَمثَّل إحدى مقولات التراث: «الدنيا قَنطرة فاعبروها ولا تعمروها»؛ إذ نلحظ ابتكاره لِلَفظةٍ مركبة هي: (سمعة الفلسفة) بِصفتها من الكُليات، المعبرة عن مَضامين القنطرةِ التي يَغرف منها إمام عبدالفتاح، ويُحيل الأحكامَ عليها، ومن ثم يحمي النَسقَ من اختراقه، فمَن ذا الذي يَضع للفلسفة سُمعة تحتاج للحماية؟

وكأنّه تاجرٌ أرادَ حمايةَ تجارته من الإفلاس، ومِن هُنا برزت لفظة (جبهة الشواذ) في خِطاب إمام عبدالفتاح؛ لتكشف عن مفهومِ جماعةٍ فلسفية، يكون موازيًا للجماعة المتفقين على صحةِ ما في الصحيحين؛ إذ نجد إمام عبدالفتاح يقول تعبيرا عن هذه اللفظة واصفا فوكو:

«...هذا المفكر الشاذّ، وهو شاذّ بأكثر من معنى»؛ إذ كأنَّه أضمر حماية النسقِ الثابت -عن الفلسفةِ في ذهنه- من عوائدِ الزمن، فهو بِتَصرفه هذا كالمستبدِّ بتعريفٍ للفلسفة لا يُريد مجاوزته.

ولعلَّ هذه السمعة هي التي جعلت طه عبدالرحمن يُؤسِّس الفلسفةَ على الأخلاقِ كَشَرطٍ لازم؛ ليطردَ مَن يَسأل ولا يُجيب الإجابةَ التي تُسَيّج المكانَ بالمسؤولية، وهي التي تعني تَلقِّي السؤالَ، وتَحمُّل تبعة فعلٍ ما.

وطه عبدالرحمن بهذا الفعل يُؤَسِسُ قنطرةً للفلسفة كقنطرةِ الصحيحين؛ لأنَّه سَيَّجَ التفلسفَ بالمسؤولية، بقطبيها: تلقّي السؤال/تحمل تبعة الفعل، ومن ثَمَّ يلزم الفيلسوف أن يُجيب وليس يسأل فحسب، ووجوب الإجابة معنى من معاني المتن الإسنادي في الحديث، وهُنا يدخل طه عبدالرحمن إلى الثقافةِ القومية؛ لينزع منها وجوب التفلسف كَكُتلةٍ مُسيَّجة باختلافٍ خارجي كالذي يحصل بين دائرتين متباعدتين من التراث الفلسفي.

لهذا يكون الاختلاف الصلب الكلي -عند طه عبدالرحمن- قد جاوزَ القنطرة، كرجالِ الصحيحين؛ ومن ثمَّ تكون الحواريةُ بين الفلسفات القومية، هي الخاصية الأولى للفلسفة، وهذا كالحوار بين الأديان حين تشترك في بعض الحقائق، لكنّها مختلفة في مبدأ التوحيد وفلسفته.

أي أنَّ طه يؤصل للسياق اللغوي الخاص بالقرآن كأفق فلسفي مرجعي، وهنا تكمن إشكالية التكتل في مقابل تهويد الفلسفة التي نظَّر لها كأفق قومي تاريخي.