تقول الطرفة إن رجلًا ضجر من كثرة الكتابات التي تسطر على الجدار الخارجي لمنزله، وحين عجز عن معالجة كثرتها بادر إلى دهان الجدار بشكل كامل ليصبح نظيفًا من العبث الفوضوي الذي يمارسه البعض عليه عبر كتابات من كل شكل ولون، لكنه حين استيقظ في اليوم التالي لدهنه الجدار، وجد عليه عبارة بالخط العريض تقول «مبروك الدهان الجديد».

وفي وقت تنتشر فيه فوضى الكتابات على الجدران التي يتخذها البعض ميدانًا للتعبير عما يجول في خواطرهم بشكل فوضوي يشيع التلوث، ويصدم حتى بنوعية العبارات المكتوبة، يتحدث كثيرون عن إدمان تلك الكتابة، ويرون أن البعض يمارسها بشكل فوضوي حيث يتاح له، دون أن يتوقف أن يجد لديه ما يمنعه من هذا السلوك الذي يصل حد الإدمان على مستوى الممارسة.

ويعرّف الإدمان لغويًا بأنه يعني الإقبال والتعوّد على شيء معين، ويوصف الإنسان بأنه مدمن على شيء أو عادة إذا واظب عليها باستمرار ولازمها بصفة قهرية، دون النظر إلى نتائجها، وكم المشاكل والعواقب التي ستحل عليه أو على المحيطين به، ودون أن يكون قادرًا على التوقف عنه أو يجد صعوبة في التوقف عنه.

وغالبًا ما يبادر أشخاص مندفعون أو فضوليون إلى الكتابة على الجدران، كما أن كثيرين يتأثرون برفقائهم الذين يمارسون الفعل نفسه، ويجدون أنفسهم مضطرين لمسايرة هؤلاء وإلا سيتعرضون لحالة من النبذ والمطالبة بإثبات الولاء والاندماج بتجربة الكتابة على الجدران.

والإدمان حاجة قوية -غير قابلة للسيطرة أو التحكم- لممارسة سلوك معين، يتمثل في هذا المجال بالكتابة العبثية الفوضوية على الجدران، وهي ممارسة تشعرهم بنشوة الفوضى وترك أثر حتى لو كان عبثيًا.

عملية فيزيائية

في وقت يخرج كثير من المتخصصين طبيًا سلوك الكتابة العبثية على الجدران من إطار الإدمان لأنهم يعدونها سلوكًا لا ينطوي على تناول مواد بعينها مثل المخدر والخمر وغيرها، إلا أن مهتمين يرون أن لهذه السلوكيات أسباب نفسية وكيمائية عدة.

ويقول الخطاط، كاتب المحتوى ناجي مهدي آل معيوف إن «الكتابة على الجدران عملية فيزيائية لها أسبابها النفسية والكيميائية العميقة، وهي تظهر فنيًا عبر مسلكين، أحدهما هما المعنى واللفظ، وثانيهما اللون والنمط».

ويكمل «تتعدد الأسباب التي أنتجت كتابة الجدران، منها على سبيل المثال:

1ـ تفريغ الطاقة في مساحة متاحة.

2ـ التعبير عن رأي أو توجه ما.

3ـ البحث عن إشباع الذات بنهم التقدير والاحترام».

ويتابع «تتعدد أيضًا دوافع الكتابة على الجدران، إذ أن الدافع في اعتقادي عامل جذب خارجي لقوى داخلية مضطربة تتحرك، فمن دوافع الكتابة على الجدران:

1ـ وجود مفعول قابل لفعل الفاعل (الجدران).

2ـ المشاهد الغائب الذي يبحث الكاتب عن نيل إعجابه أو استجداء اهتمامه».

ويرفض آل معيوف ما يشير إليه البعض من أن الكتابة على الجدران تمثل حالة إبداعية، ويقول «بين الإبداع والاندفاع هناك فارق، ليس كل عمل جداري إبداعيًا، لكنه بالضرورة تفريغ للطاقة دون أدنى شك، سواء كان ذلك التفريغ بناء أم هدامًا».

ويواصل «يبقى الاحتمال بين الإبداع والاندفاع متأرجح الحكم، ويعود الأساس للبت فيه إلى ما هو مكتوب، وما يتم نقده عبر تلك الكتابة».

غياب الوعي

ينتقد المساعد الإداري في مدارس الرواد الأهلية خالد عبدالله الوايلي انتشار ظاهرة الكتابة على الجدران، ويقول «للأسف الشديد، أصبحت الكتابة العبثية على الجدران ظاهرة منتشرة لدى كثير من الأطفال والمراهقين على الأخص، ولدى غيرهم أيضًا، وهي تمارس بشكل غير حضاري، ويعود ذلك إلى سبب رئيس يتمثل في غياب الوعي والشعور بالمسؤولية في ظل الافتقاد إلى التوجية الأسري، وعدم الحزم في تعديلِ هذا السلوك السلبي».

وأضاف «تورد دراسات علمية عدة تعريفات لهذه الظاهرة، وترى أنها عبارة عن أسلوب تعبيري عن الحالة النفسيّة للفرد باستخدام الكتابة أو الرسم بهدف إيصال أفكاره للآخرين».

وتابع «لهذه الظاهرة أسباب مختلفة ومتباينة، تتحكم فيها الحالة النفسية للإنسان، مثل الشعور بالنقص، والحاجة إلى لفت الانتباه، وكذلك رغبة الإساءة إلى الآخرين والانتقام منهم، وربما كذلك التعبير عن مشاعر الفرح، وكل تلك الأسباب سلبية لأن الكتابة على الجدار ظاهرة غير حضارية تعتمد بشكل مباشر على الانفعالات المرتبطة بالمحيط الخارجي».

وواصل الوايلي «بعض الأفراد عندما يتعرض للانتقاد والسخرية والغضب يتأثر نفسيًا مما يجعله يُعبر بطريقة خاطئة عن مكنوناته بهدف التخلصِ من الشعور بالمعاناة والحزن الذي يعاني منه، خاصة في مرحلتي الطفولة والمراهقة، لأنهما مرحلتي التعبير عن الانفعالات دون وعي بالآثار السلبية والنتائج المترتبة عليها، حيث يلجأ بعض الأطفال وكذلك المراهقين إلى الكتابةِ على الجدار بهدف التعبير عن مشاعرهم، وكذلك لإيصال أفكارهم وطلباتهم الخاصة للمحيطين بهم سواءً كانوا من الأسرة أو المعلمين أو الزملاء أو الأصدقاء، ولذا نجد أن أكثر الجدران التي تشهد كتابات هي جدارية المدارس، لأن بعض الطلاب يسارعون إلى التعبير عن انفعالاتهم اللحظية في أماكن غضبهم، ولغة التعبير الجداري تبقى لغة سهلة وسريعة وميسرة ولا تحتاج للعناء».

ويوضح الوايلي كذلك أن «من الأسباب الرئيسة لظاهرة الكتابة على الجدران هي الأسباب الاجتماعية التي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بتأثير العوامل الاجتماعية التي يعيشها الشخص في بيئته سواءً كانت إرادية مثل تقليد ومحاكاة الآخرين من الجداريين، أو كانت غير إرادية ويقصد بها الأسباب الخفية واللاشعوربة التي يتحكم بها العقل الباطن وتقود الشخص إلى السلوك السلبي رغمًا عنه».

ظاهرة عدائية

يرى الوايلي أنه من المهم تمامًا توضيح أن ظاهرة اللغة الجدارية تعد ظاهرة عدائية غالبًا لأنها تظهر في صور متعددة من الهدم والإيذاء للآخرين وللذوق العام من خلال تشويه الممتلكات العامة أو الخاصة باستخدام سلوكيات لفظية نابية كالسب والشتم وأيضًا استخدام الوصف السلبي للآخرين أحيانًا.

ويختم «لعلاج هذه الظاهرة السلبية لا بد من الإشارة إلى أن المسؤولية جماعية وتقع على الجميع بلا استثناء سواءً على مستوى الأفراد أو المؤسسات الحكومية أو الأهلية خاصة التعليمية منها للتخلص من تلك السلوكيات السلبية والعادات السيئة، وذلك من خلال الوقاية المجتمعية التفاعلية والمستقبلية القائمة على نشر التوعية والتوجية والإرشاد واستخدام الحزم إن لزم الأمر بالإضافة إلى توفير العلاج التأهيلي المُناسب للمضطربين نفسيًا».

دوافع سلبية

تشير دراسات إلى أن الكتابة على الجدران تعتمد غالبًا على الانفعالات المرتبطة بشكل مباشر بالبيئة التي تحيط بالفرد، كأن يتعرض دائمًا للنقد أو الغضب، ولذا يلجأ أحيانًا للكتابة على الجدران حتى يتخلص من الإحساس بالضيق الذي يلازمه، وليعبر عن مشاعره ويوصل أفكاره الخاصة للمحيطين به.

كما يمكن أن يؤثر التقليد بشكل واضح على من يكتبون على الجدران، حيث يعدها البعض محفزًا له تدفعه للتقليد والكتابة على الجدار التالي.

وقد تكون الكتابة على الجدران فعلًا ناجمًا عن إحساس عدائي كفعل تخريب للممتلكات العامة أو الخاصة، أو فعل مرتبط بسلوك هجومي مثل كتابة صفات سيئة أو شتائم موجهة لشخص ما.

وقد يراد منها أحيانًا خصوصًا حين ترتبط بالأماكن العامة التسويق أو الترويج لشيء ما بطريقة غير مباشرة.

ظاهرة قديمة

يرى المعلم عبدالرحمن حسين آل مشحم أن ظاهرة الكتابة على الجدران قديمة، وعرفتها بعض المجتمعات منذ عهود بعيدة، ويقول «هذه الظاهرة موجودة منذ العصور القديمة، وقد عرفت في مصر والجزيرة العربية واليونان والامبراطوريات الرومانية».

ويفند آل مشحم أسباب تلك الظاهرة، ويقول «ربما تعود إلى الحاجة لتفريغ الطاقات، أو تستخدم على سبيل الدعاية والإعلان، أو كتصرف يراد به لفت الانتباه، أو إثبات الذات، وقد تكون تعبيرًا عن تعصب لقبيلة أو حتى فريق كروي».

ويضيف «لهذه الظاهرة دوافعها الاجتماعية والنفسية كذلك، فالمراهقون على سبيل المثال عند وقوعهم في التشتت الأسري والعنف الجسدي، أو عند تعرضهم للضغوط الأسرية أو الدراسية، فإنهم يجدون في الكتابة على الجدران متنفسًا مناسبًا لحالاتهم، حيث يرون في الرسومات والكتابة طريقة من طرق التواصل المرئي»

وأضاف «لا يمكن اعتبار كل ما يكتب على الجدران من قبيل الفوضى والعبث الفوضوي، بل ربما يشكل في بعض الأحيان حالة إبداعية، وفي الآونة الأخيرة تم الالتفات إلى الشباب وتوجهاتهم وهواياتهم من قبل الجهات المختصة، وتم تخصيص مواقع وجدران محددة لإبراز هوايتهم تلك، والكشف عن الإبداعات في الخط والرسم والرمزيات وغيرها مما يمارسونه، ولا شك أن هناك كثير من المبدعين والموهوبين في هذا المجال، ومن المؤكد أن لدى هؤلاء المثير والجميل من الإبداعات التي لو تم احتواؤها وتنظيمها لكشفت عن كثير».

ويختم «ثمة حلول للتعامل مع الجانب السلبي لهذه الظاهرة وتكريس جوانبها الإيجابية، ومنها:

1ـ توجيه الشباب وإرشادهم باتباع النظام المخصص في هذا الشأن.

2ـ تطبيق نظام عقوبات على الشخص المخالف

3ـ نشر الإجراءات القانونية في وسائل الإعلام والتطبيقات الاجتماعية

4ـ التعاون في إعادة طلاء الجدران الملوثة بالكتابات والحث على نظافتها

شعور بالكبت

يعيد المستشار في الوعي وتطوير الذات بدر فهد الفقير الكتابة على الجدران بشكل عشوائي أو بعبارات غير لائقة إلى الشعور بالكبت والغضب وكثرة الانتقاد والبحث عن لفت الانتباه ومحاولة الحصول على الاهتمام من الآخرين، ويقول «الكتابة على الجدران محاولة تعبير بطريقة غير مباشرة، وحتى يمكن تحويلها من حلالة فوضوية مطبقة إلى فرصة للتعبير الجيد تبنت جهات متخصصة بالرسم والفنون استقطاب بعض الكاتبين على الجدران، وجعلتهم يكتبون ويرسمون بطريقة احترافية على جدران مهيأة ومناسبة وغير مستخدمة، وتمت الاستفادة من هوايتهم، وأتيحت لهم فرص التفريغ العاطفي، وكان هناك إبداع رائع تحول من سلوك غير مقبول الى سلوك إبداعي واحترافي».

ويكمل «هذا نوع من الحلول للظاهرة المزعجة والفوضوية، كما أن للمدرسة دور كبير في توعية الطلاب بذلك واستقطاب من لديه هذه الهواية للتسجيل في جمعيات الفنون وممارسة ذلك وجعله في مساره المناسب الذي يخدم المجتمع».

من أسباب الكتابة على الجدران

ـ تنفيس عن حالة انفعالية نتيجة التعرض الدائم للنقد أو الغضب المستمر

ـ محاولة التخلص من الإحساس بالضيق

ـ نوع من التعبير عن الذات

ـ لفت الانتباه ومحاولة الحصول على الاهتمام من الآخرين

ـ تفريغ الطاقة في مساحة متاحة

ـ التعبير عن رأي أو توجه ما

ـ محاولة تقليد الآخرين

ـ تعبير ناجم عن إحساس عدائي كمحاولة لتخريب الممتلكات العامة أو الخاصة

ـ فرصة لشن هجوم على أشخاص أو جهات

ـ تسويق وترويج