لعل من التراث الفكري الإسلامي الأقل تناولًا في العصر الحديث هو إسهامات علماء المسلمين القدماء في علم الإدارة. وكان التركيز دائمًا على ذكر إنجازات علماء الرياضيات، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، ولكن من المهم أن نتذكر معًا أن علم الإدارة لم يكن غائبًا عن جهد العلماء المسلمين في العصور الوسطى، وكان للعديد من العلماء المسلمين أطروحات ومقاربات إدارية مهمة كان لها تأثير على نمو وتطور علم الإدارة الذي نعرفه اليوم.

ومن ابن أبي الربيع في القرن الثاني الهجري، إلى أبو نصر الفارابي، ونظام الملك الطوسي، وأبو حامد الغزالي، وابن تيمية، وابن خلدون، وليس آخرهم القلقشندي، تطول القائمة، وتتنوع لتظهر لنا كم الجهد الذي بذله الكثير من العلماء المسلمين في علم الإدارة.

وقد ألّف ابن أبي الربيع كتابه الشهير «سلوك المالك في تدبير الممالك»، واضعًا في كتابه الأسس التي تقوم عليها القيادة المثالية، وموضّحًا واجبات القائد في إقامة العدل.

كما أن ابن أبي الربيع قد تناول ثمانية عناصر واجبة التحقيق من قبل الحاكم تجاه رعاياه.

أما أبو نصر الفارابي فمن أشهر كتبه في الإدارة «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وكتاب «السياسات المدنية». ومن الموضوعات التي تناولها الفاربي في الإدارة مبدأ التسلسل الرئاسي كأحد مبادئ التنظيم السياسي، محددًا سمات القيادة المثالية، وموضحًا اثنتي عشرة خصلة تكون بالفطرة في القائد، وست خصال مكتسبة فيه.

وألف أبو الحسن الماوردي كتابه الشهير «الأحكام السلطانية والولايات الدينية»، واعتُبرَ هذا الكتاب عند علماء الإدارة بمثابة أول دراسة علمية منهجية في أصول الإدارة الحكومية.

كما ألف الماوردي أيضًا كتاب «نصيحة الملوك»، وكتاب «قوانين الوزارة وسياسة الملك». أما نظام الملك الطوسي وهو فارسي الأصل فقد ألف كتابه الشهير في الإدارة بعنوان «سياسات نامه»، ويعني بالعربية «كتاب السياسة»، وقد حدد في كتابه أسس توظيف رجال الحكومة «الموظفين الحكوميين»، وأكد عدم جواز الجمع بين وظيفتين حكوميتين، وعلى أهمية تطبيق مبدأ الدوران الوظيفي للموظفين العاملين في قطاع إدارة المال العام. ويعتبر كتاب «التبر المسبوك في نصيحة الملوك»، لأبي حامد الغزالي الكتاب الأشهر له في علم الإدارة، حيث حدد فيه عشر نصائح إدارية حكيمة، وتكلم عن إدارة المالية العامة، وإدارة الوقت.

ولابن تيمية مؤلفه الشهير «الحسبة في الإسلام»، والذي تحدث فيه عن كون نظام الحسبة بمثابة نظام رقابة تنفيذي، وتكلم عن تحديد الأسعار وتحديد أجور العاملين في مجالات الإنتاج الأساسية. وهكذا، يمكن فهم مدى عمق المفاهيم الإدارية التي تناولها العلماء المسلمون في العصور الوسطى، وقد يفاجأ الكثيرون حينما يجدون أن المؤلفات الإدارية التي ألفها أولئك العلماء كانت تحمل الكثير من التعبيرات والمصطلحات والمسميات الإدارية التي لا نزال نستخدمها حتى يومنا هذا، فهل سبق أولئك العلماء عصرهم؟