لا تزال كثير من ذكريات الصحوة تلقى مساحةً كبيرة في ماضي الكثير منا، حتى وإن كانت نتيجة التجديد الذي تعيشه بلادنا لا تجد المتسع الذي كانت تتمتع بها في السابق. والقول إن غيومها السوداء انجلت من ضرب الخيال. والخروج من ذلك النفق المظلم الذي أنتج خطاب كراهية وقسم المجتمع إلى فسطاطين، يستحيل أن يكون بيومٍ وليلة، وهو ما يستدعي الإقرار بأن تجاوز المرحلة قد حدث بالفعل، لكنها لم تندثر كُلياً، ولا تزال بقاياها باقية.

والضرورة مُلحّة لمواصلة استرجاع تلك الحقبة المظلمة وتسليط الضوء عليها، من باب صيانة المجتمع، والنظر لحماية النشأ، بالدرجة الأولى، من خلال ضرورة عدم تغييبه عنها عبر فضحها وكشف حقيقتها، وربط الخلاص منها بمشروع الدولة السياسي، الذي مضى قُدماً بعد تنحية عديد من التيارات عن المشهد، لا سيما وأنها أسهمت في تعطيل التنمية، وعاشت هي ورموزها على مسارات دينية لأكثر من أربعة عقود، على قيادة الجماهير، والتجييش، وتغييب الإرادة الفردية الخاصة على حساب العقل الجمعي.

ولا يمكن إخفاء مساهمة هذه الحالة الدينية أو السياسية، التي تمت ممارستها وفرضها على المجتمعات في المملكة العربية السعودية ودول الخليج، في ضرب الوطنية والتأثير على المواطنة الحقة، لا سيما إن ربطنا الأمر بحملات التخوين والسواد الأعظم الذي كان سائداً في سنين مضت. بل إنه حتى الدولة عانت من حملات الصحوة، وهذا يثبت من خلال استذكار شكل وأسلوب المطالبات التي كانت تقدم للحكومة، ولرأس الهرم فيها– أي الملك- وكانت تأخذ ذلك على محمل الصبر والحلم، الذي كان الطريق الأجدر لمواجهة التجمعات و«عرائض التوقيعات»؛ التي تم ابتكارها بناء على مبدأ «لي ذراع السلطة أو ثنيها عن أمرٍ ما»، ومحاولة الاستناد على «فزاعة التأييد» الذي تجده الصحوة في أوساط مجتمع محافظ في أساسه الفطري وليس المبني على أيديولوجية دينية بعينها. وفي هذا الجانب على ذكر المجتمع؛ لا يمكن إنكار أن رموز المرحلة تمكنوا من اختراق شريحة كبرى لا يستهان بها من قواعدهم الشعبية، بالهالة الدينية التي جسدوها لأنفسهم، ومنهجيتهم التي يسيرون عليها. وأستطيع زعم أن الصحوة لم يكن يرُق لها حال الثبات والاستقرار السياسي في المملكة، وهو الأمر الذي ينبع من؛ «الثورة الخمينية في إيران» بعد إسقاط نظام الشاه، وأفكار الإخوان المسلمين التي كانت تهدف منذ عشرات السنين أو ربما أكثر للوصول إلى السلطة في العالم الإسلامي، وهي الجماعة التي ينبثق منها التيار الصحوي الفاشي، حتى وإن حاول التلون والتشكل، والتسمي بمسميات أخرى، فيها بعض من الوداعة، إلا أن التحزب في ذلك كانت تفوح رائحته النتنة، وكانت الدولة تدرك ذلك، والمجتمع كان واعياً في ذات الوقت.

لذا يمكن فهم لجوء كثير من المتزلفين الذين يشكلون رموزاً لتلك المرحلة، لممارسة «الإرهاب الاجتماعي» إن جاز التعبير، على كثير من الوطنيين، من خلال إطلاق التهم ما بين تكفير وردة وخروج عن الدين، لكل من يُدرك كذب وافتراء مشروعهم الكبير.

أتصور أن هناك ثلاث مراحل تاريخية مرّت بها البلاد، كفلت بكشف فساد ذلك المشروع ورموزه. الأولى: عملية الاستيلاء على الحرم المكي الشريف من قبل جهيمان العتيبي وزمرته عام 1979. والثانية: حرب الخليج التي على خلفيتها، رفض رموز الصحوة التعاون مع القوات الأمريكية عام 1990؛ والثالثة: ما يسمى الربيع العربي، وأسميه «خريفاً أو همجية»، الذي اندلعت أولى شرارة له في تونس عام 2010. فالمحطة الأولى– أي احتلال الحرم– أنتجت بعضاً من المؤيدين والصامتين. والمحطة الثانية– حرب الخليج– كشفت عن أمرين؛ الأول: وجود آلاف من القنابل الموقوتة التي خلفتها الحرب الأفغانية في أوساط المجتمع. والثاني: نمط التفكير الذي يتمتع به هؤلاء ولا يراعي الكيان الكبير للدولة، كمرجعية يفترض أن يستظل بظلالها الجميع. والمحطة الثالثة– الثورات الهمجية في العالم العربي– فقد أسقطت القناع عن مندسين حلمهم الأول والأخير تسيد مشروع الإخوان المسلمين على الوطن العربي. لذا كانت المملكة العربية السعودية صارمة في اتخاذ قرار تجريم الإخوان المسلمين ووضع هذه الجماعة على قوائم الإرهاب، باعتبارها اكتوت بنارها، فجميع ما سبق الحديث عنهم، هم بشكلٍ أو بآخر نتاج هذه الجماعة الإرهابية، مهما حاول الكثير الإنكار أو خلع الرداء عن كتفيه.

ووعد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالقضاء على هذا المشروع وسحق التطرف بكل أشكاله «والصحوة التي خرجت من رحم جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية» أبرزها؛ هو امتداد للسياسة التي تنتهجها المملكة، في محاولة لتطهير صفحات تاريخها من ذلك السواد القائم على الكراهية ونبذ الآخر. إن الدور المُناط بالدولة يتمحور حول الاقتصاص من تلك الجماعات التي جثمت على صدورنا سنوات طويلة وجعلت منا مجتمعاً رجعياً.

ويبقى دور مهم للقوى الناعمة من دراما وندوات وكتابات هادفة، لفضح وكشف المستور عن تلك السنين السوداء.

فيدٌ واحدة لا تُصفق، وهذه دعوة.. لنقتلع الأشواك من أقدامنا بأيدينا.،تمنيت أن يكون بأيديهم، لكن موقعهم يحول دون ذلك، فهم في مزبلة التاريخ.