من أهم وأجل عقائد المسلمين، علمائهم وغيرهم، أن أبا البشر وأمهم واحد وواحدة، وهذا أمر ثابت بنص رباني، محكم وخالد، في سورة الأعراف: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَٰلِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ}؛ ومن هذين النفسين انتشرت الشعوب والقبائل، وتباينوا في ظاهرهم، وتباعدوا في أماكنهم، وتفاضلوا في ما بينهم بالتقوى والطاعات ومكارم الأخلاق، وكما قال الحق، سبحانه وتعالى، في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}..

بطبيعة الحال، الخلق ليسوا على درجة واحدة من الأخلاق، ومن هنا سن خالقهم، سبحانه وتعالى، لهم قاعدة قرآنية، هي قاعدة «التدافع»، المذكورة في سورة الحج: {..ولَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، والتدافع هنا تدافع مع تسامح بين النقائض أيا كان نوعها، كالصلاح والفساد، والعدل والظلم، وغير ذلك، من كل ما يضمن تطبيقه الوصول إلى التوازن في العيش والحياة، وكما قال سيدنا ابن عباس، رضي الله عنهما: «يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي».

المتأمل في قانون «التدافع»، سيعرف حتما أن «الاختلاف» بين الناس أمر حتمي، ومنه ما يكون واجبا، أو مندوبا، ومنه ما يكون حراما أو مكروها، ومنه ما يكون مباحا، ومن أجمل من فصل في قضاياه الإمام الشاطبي، رحمه الله، حيث نقل لنا في كتابه «الاعتصام» قولا رائعا نصه: «كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة؛ علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة؛ علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء».

أختم بأن من منطلقات العدل الإلهي، التي لا يمكن أن تصل إلى التشكيك؛ أن الله، سبحانه وتعالى، قادر على جعل الناس أمة واحدة، وأمة متفقة، ولكنه أراد الخلاف والاختلاف للناس وبينهم، وقدره عليهم، لحكم كثيرة، وفي مقدمتها أن يبذل كل إنسان جهده في الوصول للحق، قال تعالى في سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين}، وهو ما يحتم استمرار السعي في المراجعات للاجتهادات السابقة في مسائل الحياة المختلفة، وإعادة بناء ثقافة إسلامية معاصرة، والربط بين الزمان والدين، والتوفيق بينهما، مع كف عن الخصومات السرية والبينية، وتصالح صادق، وحسن مراعاة للدوائر السياقية التي تؤثر في صياغة الأحكام المختلفة، كالسياق النصي، والسياق الواقعي، والسياق الحضاري، والسياق المحلي، والسياق العالمي، والسياق الجزئي، والسياق الكلي، وحسن اعتبار لفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وقناعة كاملة بضرورة فتح الذرائع، وليس سدها فقط، كما قال الإمام القرافي، في كتاب «الفروق»: «اعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، ويكره ويندب ويباح».