كيف تطورت الأخلاقيات إلى أخلاق عالمية، وما الفرق بين الأخلاقيات والأخلاق؟ لنبدأ الإجابة بشكل تاريخي (مخل) فمساحة المقال تقتضي الابتسار والاجتزاء ليبقى السياق متماسكاً قدر الإمكان فنقول:

لو افترضنا جدلاً أن هناك شخصا على المريخ لوحده لمدة سنة كاملة ولديه كل ما يحتاجه من هواء وغذاء وماء فما هي الأخلاقيات أو الأخلاق التي سيفعلها خلال هذه السنة؟

ما نريد قوله هنا إنه «لا أخلاق أو أخلاقيات بلا مجتمع»، وقد اكتشف علماء «علم اجتماع الحيوان» أن الثدييات لديها أخلاقيات، ولكن ليس لديها أخلاق، فالقطيع يتميز بأخلاقيات تهدف في المقام الأول إلى حماية (جماعته) من العدو الخارجي، ويتميز بأخلاقيات تحفظ له نظامه الداخلي، ولهذا فقد كان الإنسان بما هو (نوع من أنواع الثدييات) يحمل أخلاقيات القطيع ،فنجد عنترة العبسي يتحدث عن غض الطرف عن جارته حتى يواري جارته مأواها، بينما يشعر بكامل الفخر والاعتزاز فيما لو قتل وسبى نساء قبيلة أخرى.


عاشت البشرية آلاف السنين وفق هذا المنطق البدائي للأخلاق، بينما هي «أخلاقيات القبيلة البدائية» التي لا تختلف كثيراً عن أخلاقيات القطيع، مما جعل ديزموند موريس يؤلف كتابه باسم «القرد العاري». وقد احتفظ البشر في مجتمعاتهم بهذا النوع من الأخلاقيات في نطاق ضيق ومهذب يخص «الأحزاب والنقابات» ليجد فيها المراقب بعض ما يجده في (القبيلة البدائية من ضوابط وكوابح).

الإشكال أن الملل والنحل طيلة تاريخها الإنساني سارت في الطريق نفسه ،فكانت كل ملة تشكل بتعاليمها (أخلاقياتها الخاصة)، فنرى الحروب الصليبية ضد المخالفين، وهذا مثال وليس حصرا.

وبعد تطور العقل البشري واستعادته لقلق السؤال حول «فلسفة القيم»، أبدع كانط منطق «أخلاق الواجب» التي كشفت الادعاء الذي كانت تمارسه الكنيسة بأنها منهل الأخلاق الوحيد لأنها مربوطة بالسماء، بينما الحقيقة أن ما طرحته الكنيسة ليس إلا أخلاقيات «القطيع المبنية على غريزة حفظ النوع»، ولهذا كانت الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، بينما «الأخلاق» مفهوم «إنساني شامل». وتمكن كانط بهذا الفصل والكشف الفلسفي أن يؤكد أن «الأخلاق» مفاهيم عقلانية نجدها في الصين الوثنية كما نجدها في ألمانيا المسيحية، وتمكن الفلاسفة من بعده من استظهار «الأخلاق الإنسانية» بمعناها العالمي في مسيرة من التساؤلات والإخفاقات حتى خرج العالم في العصر الحديث بما سمي «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» كمرشد وضابط لمن أراد الخروج من ضيق الأخلاقيات «المذهبية والقبلية والعشائرية والعرقية... الخ» إلى سعة الأخلاق الإنسانية، وتركت الأمم المتحدة طريقة تطور المجتمعات باتجاه هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان موكولاً لقدرة كل دولة في الارتقاء بمجتمعاتها إلى هذا المستوى من «الأخلاق العالمية».

«الأخلاقيات» خاصة بفئة اجتماعية مخصوصة داخل الدولة، سواء كانت هذه الفئة (حزب، نقابة، قبيلة، طائفة... الخ)، بينما الأخلاق خاصة بالنوع الإنساني على هذه الكرة الأرضية، لنرى مثلاً (مقرر الأمم المتحدة) يحرج إحدى الدول بتقرير سيئ عن واقعها الحقوقي/‏ الأخلاقي عن مواطنيها.

ينبثق عن هذا تساؤل: هل الأخلاق حق يحميه القانون؟ وفق ما استعرضناه أعلاه نستطيع أن نقول: نعم، فالدولة تحمي مواطنيها ممن ينتهك أخلاق التعايش السلمي بين الطوائف والقبائل بدعاوى التحريض للكراهية، بل وتعيد الدولة (هيكلة الأخلاق) داخل الأسرة نفسها، فإذا ظهر للدولة أن هناك (أخلاقيات زرعتها أيديولوجيا معينة كالسرورية مثلاً تبيح للرجل وفق منطق أخلاقياتها أن تهان الزوجة بالضرب مثلاً) فإن الدولة تحمي نصف المجتمع من تغول نصفه الآخر، فالعدالة وعدم التفريق بين النوع الإنساني يبدأ من الحفاظ على (الكرامة الإنسانية) بالمستوى نفسه للرجل والمرأة والطفل، دون قبول أي أخلاقيات تبرر هذا الانتهاك للكرامة تحت ذريعة (التربية أو التأديب).

أعتذر من القارئ (المثقف الحساس للمصطلحات والدلالات) لكن الإيجاز الضروري لإيصال المعنى الإنساني الكبير للأخلاق، يبرر للكاتب ما وقع فيه هنا أو هناك من ابتسار واجتزاء للمفاهيم والمصطلحات ليتمكن القارئ من الحصول على أكبر معنى فلسفي بأقصر طريق، ورحم الله الدكتور عبدالرحمن الوابلي الذي ترك في نفس كاتب المقال أثراً فكرياً جعله يستزيد معنى الأخلاق من خلال مقال الوابلي عام 2009 في صحيفة الوطن بعنوان «منظومة أخلاقيات لا منظومة أخلاق»، ليته عاش معنا رؤية 2030 وما تطرحه من قوانين ومشاريع في سبيل رفع «جودة الحياة» للمواطنين، وحمايتهم من «أخلاقيات الصحوة» التي كانت مثلاً تبرر انتهاك كرامة المرأة بدعوى تأديبها، وانتهاك كرامة الطفل بدعوى تربيته، وانتهاك كرامة مواطن بدعوى «غلبة الأكثرية ضد الأقلية»، لتستعيد الدولة من خلال قيادتها السياسية ركائز أخلاق «المواطنة» فلا فضل لمواطن على مواطن ذكراً كان أو أنثى، شيعياً كان أو سنياً، طفلاً كان أو راشداً إلا وفق مقررات وسياقات وضعتها الدولة ليظهر من خلالها مفهوم «أخلاق المواطن» التي تمنح لكل المواطنين بلا استثناء فضاء يجمع (بين الحرية والكرامة) فحرية بلا كرامة انحلال وتفسخ، وكرامة بلا حرية استعباد يغطي الرسن بالورود، وفي كل الأحوال فالفرد بلا (دولة) لن ينال حرية ولا كرامة.

«الدولة» رأس مال اعتباري لكل مواطن بل تاج على رأس كل مواطن، لا يراه سوى المشتتين المشردين يستجدون اللجوء بين دول العالم، فمن دون «الدولة» يصبح الفرد بين ليلة وضحاها فقيراً لكل شيء «الأمن والسلم والكرامة والحرية» ليتسول هذه المعطيات ولو برمي نفسه في البحر كما فعل الهاربون من استبداد «أنظمتهم»، وشتان ما بين «دولة» تبتكر الرؤى الحضارية من أجل رفاه شعبها وكرامة كل مكوناته، و«نظام» يبتكر الفتن الطائفية بين شعبه من أجل بقائه، ساحقاً بذلك كرامة كل مكوناته.