المشهد في تشييع شيرين أبو عاقلة كان بثًا مباشرًا لوحشية الاحتلال الإسرائيلي، للقمع العلني المبرمج الذي أثار صدمةً أخرى بعد صدمة اغتيالها، حتى أنه، على ما يقال، أغضب واشنطن التي لا يترك لها حليفها فسحة أو حجة لتبرير تغطيتها الدائمة لجرائمه المتكررة. وما فائدة «الحزن» أو «الغضب» الديبلوماسيين إذا تعمّدا التواطؤ في التستر على قاتل الصحافية ولم يقترنا باعتراف عملي واضح بما تقتضيه «المبادئ» في فلسطين... أسوةً بما يدافع عنه الغرب في أوكرانيا.

لم يعد الأمر كيلًا بمكيالين بل تمييزًا وعنصرية واضحين. تُراد محاكمة جرائم الحرب الروسية في أسرع وقت، أما جرائم الحرب الإسرائيلية فلا محاسبة لها في أي «عدالة» على هذه الأرض، ولا في أي نظام دولي «غربي» قائم أو «شرقي» موعود. لم تكلف روسيا نفسها الاعتراض على بيانٍ لمجلس الأمن يدين «مقتل» أبو عاقلة، أما الصين فأصرت على إلغاء فقرات تُدافع عن حرية وسائل الإعلام وتُندد بالانتهاكات المرتكبة ضدها في كل أنحاء العالم وتحض على «حمايتها أثناء تغطيتها للعمليات العسكرية».

يظل الاحتلال الإسرائيلي على هامش النظام الدولي القائم، ينتهك مواثيقه ولا يلتزم قوانينه، وهو يترشح الآن ليكون في صلب النظام «الجديد» الذي يشرعن الغزو والاحتلال والاعتداء على الشعوب والدول، وكذلك العمل على قتل الحقيقة بإسكات الصحافة والصحافيين.

في النظام «الجديد» يكون الصحافيون موظفين لدى الرواية الرسمية أو أعداء ومخلّين بالنظام، أو «إرهابيين» كما تصف إسرائيل كل فلسطيني يرفض احتلالها وإرهابها.

وفي تقويم حرية الصحافة بمناسبة يومها العالمي (3 مايو) تبيّن أنها تراجعت بحدة في 85 % من الدول.

كانت القيود الشديدة في روسيا من آخر مآثر حكومات «النظام الجديد» في ضرب هذه الحرية، وفي إسرائيل تعلو روايات الحكومة على أي حقيقة عندما يتعلق الأمر بـ «عمليات الجيش» وخصوصا بجرائمه، المتعمدة معظم الأحيان، ضد المدنيين.

فالقتل الإسرائيلي اليومي للفلسطينيين كرس منذ الانتفاضات روتينًا ومهمة ضروريين لعرض القوة حتى ضد العُزل وإثبات أن جرائم الدولة وحدها تضمن الأمن للإسرائيليين.

اعتمدت إسرائيل القوة المفرطة ضد أي نوع من المقاومة للاحتلال، سلمية أو غير سلمية، من رماة الحجارة إلى مطلقي النار ومفجري القنابل وحتى الرموز السياسية، سواء بسواء.

وهي تمنهج الآن استخدام هذه القوة ضد الصحافيين، ولا تريد شهودًا إذ تمضي إلى أبعد من القوة المفرطة ومصممة على ارتكاب جرائم.

كان أرييل شارون وشاؤول موفاز ألزما قوات الاحتلال بتعمد القتل يوميًا عندما كانت الانتفاضة عزلاء وسلمية بمعظمها، ثم أضاف بنيامين نتنياهو وقادته العسكريون تسليح عصابات المستوطنين كقوة رديفة.

هذه السياسة لا تزال متبعة وبادر نفتالي بينيت وأفيف كوخافي أخيرا إلى تغليظها حين أجازا إطلاق النار بلا ضوابط ردًا على استهداف مسلحين فلسطينيين لمدنيين إسرائيليين.

قتل العديد من النشطاء الفلسطينيين المدنيين بهذا الترخيص ولم يكونوا مسلحين، قُتلت غادة سباتين في حوسان، وقُتلت شيرين أبو عاقلة قرب مقبرة مخيم جنين، وقبلها أُطلقت النار على زميلها علي السمودي.

كانا يرتديان السترة والخوذة الواقيتين، مع علامة الصحافة المحددة دوليًا، وكان جنود الاحتلال يعلمون بوجودهما.

«الصحافة ليست جريمة»... شعار رفع خلال الاحتجاج على قتل شيرين وتشييعها، ولأنها مقدسية وتحت الاحتلال دهم الجنود منزلها لفرض العزاء الصامت، ومنع التشييع الحاشد والهتاف وبالأخص رفع الأعلام الفلسطينية، وهوجم المستشفى الفرنسي وضُرب المشيعون لمنعهم من حمل جثمانها على الأكتاف وفرض نقله إلى الكنيسة بسيارة، وحتى الصلبان والأكاليل المرافقة استُبعدت.

أراد قادة الاحتلال أن يتحكموا بالقتل والعزاء والتشييع والدفن، إذ غدت بالنسبة إليهم من مظاهر «السيادة» على القدس.

كانوا قوة القمع، لكنهم كانوا خائفين من جثمان شيرين الذي جعل وجودهم واحتلالهم و«سيادتهم» فضيحة عالمية، لا لشيء بل لأنهم عرفوها جميعًا، كما عرفها العالم، صحافية حقيقية وفلسطينية محترمة، مسيحية تدافع عن المسجد الأقصى، ولا تحمل سوى صورتها وصوتها وشجاعتها التي يقصد الاحتلال إخمادها.

فبعد إسكات الجميع بقي للفلسطينيين صوتٌ تنقله شيرين، وهو أكثر نفاذًا من كل الفصائل وأسلحتها. ولعل الأسوأ من القتل الإسرائيلي أن ينبري بعض صغار النفوس من مدعي الإسلام للإشارة إلى ديانتها ثم «الإفتاء» بعدم جواز اعتبارها «شهيدة».

لا بد أن سلطة الاحتلال وحدها اهتمت بهذا اللغو، لكن أحدًا في فلسطين وخارجها لم ينتظر فتاويهم التافهة.

أما شيرين فاستقرت منذ زمن في القلوب والعقول إنسانةً ترفض الظلم الذي يتعرض له شعبها.

في كل الانتهاكات التي أقدمت عليها قوة الاحتلال لم تثبت سوى شيئًا واحدًا: أنها قتلت شيرين عمدًا. تلك هي الحقيقة الأخيرة التي أشهرتها الصحافية ودفعت حياتها ثمنًا لها.

كل ما فعلته حكومة بينيت وعسكرها بعد ذلك كان تمارين على الهروب من الحقيقة، بالتضليل والتلفيق. لم تصمد رواية بينيت لدقائق، ولا روايات كوخافي التي مرت بتقلبات عدة، ومعها التحقيق الخاص الذي أمر به.

في البداية قالوا إن الرصاصة القاتلة جاءت من سلاح أحد مسلحي جنين، وانتهوا إلى «احتمال كبير» بأن يكون أحد الجنود أصابها لكن «بالخطأ»، وفي الأثناء جربوا تبرئة قناصة الجيش لأن أسلحتهم مجهزة بمناظير متطورة بدليل أن أحدهم قتل مسلحًا فلسطينيًا بتصويب دقيق أما قتل شيرين فزعموا أنه بـ «رصاص عشوائي»، كذلك إصابة زميلها علي الذي أفاد بأن الصحافيين تمركزوا في موقع بعيد عن المواجهات، وتعمدوا كالعادة إظهار أنفسهم ليراهم الجنود، الذين لم يطلبوا منهم الابتعاد، ثم أُطلقت عليهم النار.

لا أحد لديه أوهام بأن سلطة الاحتلال مهتمة بإجراء تحقيق ذي صدقية، فليس في سوابقها أن شيئًا سيمنعها من تكرار الجريمة، أو أن تحترم حياة المدنيين الذين كانت شيرين أبو عاقلة تحاول الدفاع عنهم، وقبلها خمسة وخمسون صحافيًا قضوا وهم يؤدون عملهم. أما زملاؤهم الذين سيكملون المسيرة فباتوا يعلمون أن «لا ضوابط» قانونية أو أخلاقية تمنع آلة القتل الإسرائيلية من استهدافهم، وأن مهنيتهم لا تحصنهم، إذ كانت شيرين نموذجهم في المهنية، ولذلك استُهدفت.

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي